الصخور الغرائبية والأحافير المطمورة وزهور الصيف في مسار واحد

سوسنة
خالد ابو علي
في عصر يوم الإثنين، الثاني من حزيران، بدأنا مسارا دائريا من قلب بيتونيا. كان مسارا مسائيا بنكهة الفجر، برفقة أصدقاء نذروا أرواحهم لحراسة الجمال الطبيعي.
امتزجت خيوط الشمس الذهبية الأولى ببهجة اللقاء مع الطبيعة. انطلقت خطانا من منطقة تُعرف شعبيًا بـ”الخبطة”، المُطلة على بيتونيا وعين عريك وديرإبزيع( مناطق في محيط مدينة رام الله بالضفة الغربية)، وكأنها شرفة معلّقة على نهر من الوداعة والذكريات، هناك حيث تعانق الجغرافيا الذاكرة.
سار الفريق بخطى مفعمة بالحيوية، يتوسطنا نسيم عليل، وتحرسنا أشجار الزيتون الرومي العتيقة التي تقف شامخة منذ مئات السنين، تلك التي رافقت تاريخ الأرض وقصصها، وبين صخورٍ غرائبية الشكل، نحتتها الطبيعة فصارت لوحات حجرية صامتة رسمت عوامل التعرية عليها أشكالًا أشبه بالأساطير، كنا نسير وكأننا نقرأ كتابًا حجريًا مفتوحًا على فصول من الجمال الصامت.
وخلال سيرنا بين جبال بيتونيا وعين قينيا، كانت الصخور الضخمة والجميلة تستوقفنا بجلالها، وكأنها تحرس المكان منذ الأزل، وقد احتضنت الأشجار بجذوعها الغليظة بكل رفق وعناية، كأم تضم أبناءها في حضنها الأول.
وكم كانت دهشتنا حين عثرنا على بعض الأحافير المطمورة في خاصرة الصخور، والتي يُقدّر عمرها بملايين السنين!
كانت بقايا الحياة البحرية القديمة، وقد طبعت أشكالها بعناية على صفحات الحجر، وكان أبرزها “الأمونونايت” بأشكاله الحلزونية المتقنة، يرسم دوائر الزمن السحيق، ويروي قصة البحر الذي كان هنا، حين كانت هذه الجبال أعماقا مائية وذاكرة ملحية تشهد على تحوّلات الأرض والكائنات.
رافقنا في مسيرنا حضور مهيب لأشجار الصنوبر، والسرو، والبلوط، والخروب، والجميز، والجوز، والقطلب، والكرز، والرمان، والتين، وكأنها تتقاسم معنا ظلّها وحكاياتها، تحرسنا من الشمس وتُرينا كيف يكون الوطن شجرة.
كنا نتحرك وسط تنوع حيوي يعكس غنى الغابة الفلسطينية. كانت الأشجار تظللنا بمحبة الأمهات، وترافقنا كجنود يحرسون ذاكرة الأرض من النسيان.
في قلب الجبال رأينا ما تبقّى من أزهار الصيف؛ تفتحت لنا زهرة اللوف الفلسطيني، والخطمية أو عين البقرة، وأزهار شوك الجمال الزرقاء، كأنها ملكات تتربع على عرش الطبيعة.
راقبنا آثار غزال الجبل الفلسطيني؛ آثار خفيفة لكنها تدل على حضوره، كما أطل علينا الثعلب الأحمر عند الغروب، يسير بخفة بين الصخور، ربما باحثا عن طعام لصغاره، ثم توارى في الخفاء وكأنه يودعنا، في مشهد خفيف وعميق كالحلم.
حين وصلنا إلى خربة روبين، تنفست الحجارة القديمة فينا عبق الأزمنة البعيدة؛ رأينا معاصر الزيت والعنب الأثرية، بقايا صامتة من العصرين الروماني والبيزنطي، وأمام أعيننا تناثرت قطع الفخار كأصداء لحياة سكنت هذا المكان ثم مضت، مخلفة وراءها أثرا يعاند النسيان وعبث لصوص الآثار.
في قلب الخربة، انكشفت لنا آبار محفورة في الصخر، بعضها مكسو بطبقة من “القصارة”، كانت تُستخدم لجمع مياه الأمطار، وربما كانت يوما مخابئ للناس من الأعداء، حين كانت الأرض ملاذا والخوف رفيق الدروب.
شاهدنا الحجارة الضخمة التي شكلت ممرات بين جدارين، ومداخل ضيقة كانت بمثابة شرايين حياة تؤدي إلى الداخل، وأبراج حراسة صامتة على التلال.
كانت الخربة تجلس فوق مرتفع يُطل على القرى المجاورة، كمراقب قديم يعرف من عبر ومن رحل، ومن لا يزال يأتيها حبا أو بحثا عن المعنى.
هنا عاش الناس، وبنوا، وزرعوا، وهنا مرّت السنون كما تمر الرياح، فعبثت الطبيعة والتاريخ بالمعالم، لكن الأرواح القديمة ما زالت تهمس في زوايا المكان، كأنها تقول: نحن ما زلنا هنا، ولو غابت الأبواب والنوافذ.
ولم تكتمل الرحلة دون زيارة عيون الماء الرقراقة في عين قينيا، حيث تهادت مياه نبعة عين الرمان، وعين أبو عوينة، التي تظللها شجرة بلوط ضخمة ذات جذع عتيق وروح خضراء، شاهدة على مرور الأجيال.
وعلى مقربة، وقفنا في حضرة مقام “أبو العينين”، الذي تم ترميمه مؤخرا، تحرسه شجرة قطلب عملاقة ذات أغصان حمراء كثيفة، تمتد ظلالها كحنين قديم، وتروي بجذورها أساطير مَن مرّوا من هنا.
التقط الفريق صورا تذكارية بين أغصانها، كأنهم يودعون المكان مؤقتا، ويأخذون شيئًا من ظله معهم.
غادر الفريق المسار، وفي قلوبنا أماكن لم تغادرنا، صور من جمال الأرض وروحها القديمة، وكأن كل شجرة وكل زهرة وكل حجر، كان يهمس لنا: “عودوا دائماً… فالطبيعة لا تنسى محبيها.”
*خالد أبو علي، هو باحث وناشط بيئي فلسطيني يقيم بين مدينتي رام الله وجنين، ويعتبر أيضا خبيرا في التخطيط الاستراتيجي والطاقة الخضراء وله إسهامات متعددة في تنظيم النشاطات الخضراء.