ينابيع المياه في مواجهة التغيير المناخي والاستعمار

خاص “سوسنة”
طيلة خمسة وخمسين عاما، كان عايد كعابنة من سكان العوجا، شاهدا على التغيرات التي طرأت على النبع الذي يروي عطش سكان المنطقة منذ عقود حتى اليوم.
رغم التناقص في كمية المياه المتدفقة أحيانا، أو انقطاعها بشكل كامل في عدة أشهر في بعض السنوات إلا أن النبع ظل حيا حتى اليوم.
يقع نبع العوجا قرب اكثر المناطق انخفاضا عن سطح البحر على بعد 11 كيلومترا شمال شرق أريحا، وعلى مقربة من نهر الأردن، الواقع إلى الشرق من الموقع.
عبر سفوح الجبال من ناحية الغرب تتدفق مياه النبع لتصل الى الأرض المنخفضة، وصولا إلى وادي العوجا الذي يعتبر جزءا من الأودية الطبيعية في المنطقة، وخلال الأسابيع الفائتة، جف مجرى النبع الذي كان يغذي المنطقة، بشكل كامل.
ويمكن تفسير إرجاع السبب في جفاف النبع الى سببين منطقيين: التغير المناخي، وحفر الاحتلال لآبار جوفية ومن تحته المستوطنين.
فالنبع الذي كان ملهما للحياة بالنسبة للفلسطينيين على مدار عقود، محاط بخمسة آبار جوفية، بأعماق متفاوتة، حفرها الاحتلال منذ احتلاله الضفة الغربية عام 1967، يراها مدير دائرة زراعة أريحا أشرف بركات، سببا قويا في جفاف النبع.
يقول حسين زايد، أحد المواطنين القريبين من مجرى النبع: “هذه المرة الأولى التي تجف فيها النبع بهذا الشكل”.
وزايد الذي يسكن في المنطقة منذ عام 1979، قال إنه في بعض السنوات كانت تتناقص تدريجيا، لكن لا تصل إلى مرحلة الجفاف الكلي مثل هذه السنة.
ان تحالف الاسباب الطبيعية مثل التغير المناخي مع الاهداف الاستعمارية، جعل من نبع العوجا قصة ذات نهاية حزينة.
فمنذ عامين تنشط حركة للمستوطنين عند مصدر النبع، وصولا إلى مجراه الذي يستفيد منه المواطنون الفلسطينيون في المنطقة.
وأقوال المواطنين في المنطقة أعطت انطباعا يدلل على احتمالية نقل المستوطنين لمياه النبع إلى أماكن تحت سيطرتهم.
إن الوضع الحالي الذي قاد لجفاف النبع بشكل كلي، ينبيء بارتدادات سلبية على مواطني المنطقة في حياتهم اليومية.
فزايد الذي يعمل مع أشقائه على تربية أكثر من 1500 رأس غنم، كان يعتمد كليا في ريها على مياه النبع المنسابة من النبع.
لكن مع جفاف تلك النبع، فإنه كما يقدر يحتاج يوميا لحوالي 100 كوب لري مواشيه.
“عملية مكلفة وخطيرة”. وكان يقصد تكاليف نقل المياه، وخطر استيلاء الاحتلال على الجرارات والصهاريج.
يقول كعابنة قولا مشابها لزايد،”الحياة هنا مرتبطة بوجود المياه(..)، فقداننا لواحدة من ركائز الوجود يعني حياة بتكاليف أكثر”..
للعوامل المناخية عند بركات دورا منطقيا في جفاف النبع الذي يقول إن شح الموسم المطري أدى إلى توقف تدفق مياه النبع هذا العام مبكرا”.
عاشت المنطقة هذا العام موسما مطريا، اعتبره مختصون من أسوأ المواسم في السنوات الماضية.
تشير الإحصائيات الرسمية الصادرة عن دائرة الأرصاد الجوية، أن كمية الأمطار التي هطلت في أريحا حتى مساء الأربعاء الثلاثين من نيسان، هي 63.5 ملم، من أصل 166 ملم، المتوسط العام، وهذا الرقم يوازي 38% من المعدل العام في المحافظة.
وهذا يعني تغذية مائية محدودة للنبع.
قد يكون هناك سبب آخر من صنع الطبيعة أدى إلى جفاف النبع بهذا الشكل المخيف.
“التغير المناخي في السنوات الماضية”.
ففي واحدة من أهم مظاهر التغير المناخي في المنطقة، شهد العام الماضي تغيرات مناخية قاسية في أريحا، إذ تحدثت بيانات الأرصاد الجوية، بأن شهر حزيران/يونيو الماضي شهد موجتي حر شديدتين إحداهما كانت في بداية الشهر وامتدت لمدة أسبوع في الفترة من الثاني وحتى السابع من حزيران، فيما كانت الثانية في منتصف الشهر ولمدة ثلاثة أيام من 13 إلى 15 حزيران 2024.
وأشارت بيانات الأرصاد إلى أن أعلى درجة الحرارة سجلت خلال الشهر في مدينة أريحا يوم 14 حزيران/يونيو 2024، بحيث تجاوزت أعلى قيمة سجلت خلال شهر حزيران منذ أواخر الستينيات وحتى اليوم والتي كانت 46.8 درجة مئوية في العام 1969.
يعيش في العوجا حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، حوالي 5981 مواطنا، من المتوقع أن يصل عددهم العام المقبل إلى 6085، يعتاشون من مهنتين أساسيتين.. الرعي والزراعة.
وفي كلتا الحالتين توفر المياه عامل أساسي في ازدهار المنطقة، واستمرار الحياة.
في المواسم المطرية الجيدة، كانت النبع تضخ سنويا حسب الأرقام التي قالها بركات لــ”سوسنة”، ما بين 7-10 ملاين كوب مياه سنويا، يستخدمها عشرات المزارعين أشجار نخيل مزروعة على حوالي 5000 دونم.
في ورقة تعريفية عن المياه الأغوار، نشرت على مركز المعلومات الفلسطيني، فإن عدد الينابيع الرئيسية في الأغوار، يقدر بحوالي 22 ينبوعاً، تتغذى مياهها من الطبقات المائية الجبلية؛ فيما يقدر المعدل العام للتدفق السنوي لهذه الينابيع بحوالي 44 مليون م3/السنة.
وتستغل مياه هذه الينابيع في أغراض الزراعة والشرب.
تتذبذب كميات مياه ينابيع الأغوار، من موسم إلى آخر؛ تبعًا لكميات الأمطار الساقطة على الطبقات الجبلية المغذية لها.
يوما بعد يوم، تقترب المنطقة من لهيب الصيف، ويتوغل الشهر الملتهب ببطء في حياة الناس، وهذا يعني شيئا واحدا: مزيدا من الحاجة الى المياه.
عند مجرى المياه المتدفقة من نبع العوجا، كانت تظهر في السنوات الماضية صورة جميلة للسياحة البيئية في المنطقة، لكن شهادات المواطنين تؤكد أن هذا النوع من السياحة اختفى بعد استيلاء المستوطنين المقيمين من 6 بؤر استيطانية عليها، وتوقف تدفق المياه منها.
ويُساهم النبع في دعم التنوع البيولوجي المحلي، حيث يوفر بيئة مناسبة لموائل النباتات والحيوانات، ويُسهم في الحفاظ على التوازن البيئي في المنطقة، من خلال توفير عنصر الحياة الأول وهو المياه اللازمة للنباتات والحيوانات المحلية.
أدى التغير المناخي إلى خلق سلوك غير طبيعي عند الطيور المهاجرة.
يقول المدير التنفيذي لجمعية الحياة البرية في فلسطين عماد الأطرش انه في موسم الهجرة الماضي الذي يبدأ بعد منتصف شهر آب، كان خط سير طائر “الرهو” أثناء مروره في فلسطين، فوق جبال القدس وبيت لحم، فيما من المفترض أن يمر من فوق الأغوار الفلسطينية.
وعزا الأطرش هذا التغير إلى ارتفاع درجات الحرارة أثناء فترة الهجرة، فوق الطبيعي.
كانت الطيور تبدأ بالتزاوج تزامنا مع بداية شهر شباط من كل عام، لكن بسبب ارتفاع درجات الحرارة في المنطقة، أصبحت هذه الطيور تتهيأ للتزاوج في أوقات تسبق مواعيدها الطبيعية.
ويقود التزاوج مبكرا، إلى التفقيس مبكرا أيضا.
يقول الأطرش، ان قدوم تلك الطيور والحيوانات في ظروف مناخية غير ملائمة، يجعلها تحت التهديد الذي يصل أحيانا إلى نفوقها.
والأمر ذاته ينطبق على النباتات، فبسبب ارتفاع درجة الحرارة أصبحت بعض النباتات مثل شقائق النعمان مثلا تزهر في شهري أكتوبر ونوفمبر، فيما أن موعد أزهارها الطبيعي بعد منتصف شباط.
الأطرش ذاته قال إن من نتائج تاثيرات التغير المناخي على النباتات هو تقزمها.