“المتوسط” يواجه تحولا استوائيا

سوسنة، جميل ضبابات
يهدد تدفق الأنواع الاستوائية بإعادة تشكيل النظم البيئية في البحر الأبيض المتوسط، في وقت تواجه الأنواع المحلية، المتكيفة مع درجات حرارة أكثر برودة، خطر الانقراض أو التهجير بسبب المنافسة الشرسة من الانواع الغازية.
على سبيل المثال، قد تؤدي الأنواع مثل القواقع المخروطية، المعروفة بسميتها العالية، إلى خفض أعداد الأسماك المحلية والرخويات، مما يعطل سلاسل الغذاء.
ومما يفاقم المشكلة أيضا هو غياب الحيوانات المفترسة الطبيعية في البحر المتوسط، مثل أسماك القرش أو الباراكودا التي تتحكم في أعداد الأنواع الغازية مثل أسماك التنين في البحر الأحمر.
ونتيجة لذلك، تزدهر الأنواع الغازية دون قيود، مما يؤدي إلى زيادة أعدادها بشكل سريع.
في دراسة رائدة نُشرت في مجلة “وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم” (PNAS) حذر باحثون من أن البحر المتوسط على وشك تحول بيئي جذري.
تحمل الدراسة عنوان “بداية غزو الأنواع الاستوائية الأطلسية للبحر المتوسط”، وتسلط الضوء على كيفية دفع ارتفاع درجات حرارة البحر في المحيط الأطلسي للأنواع الاستوائية نحو الشمال، مما قد يحول البحر المتوسط إلى نظام بيئي استوائي بالكامل بحلول عام 2100.
هذه الظاهرة، التي يغذيها تغير المناخ، قد تعيد تشكيل التنوع البيولوجي البحري، وتعطيل النظم البيئية المحلية، وتُشكل تحديا للمجتمعات الساحلية في المنطقة.
الدراسة، التي قادها باولو ج. ألبانو ومايكل شتاين وفريق من الباحثين الدوليين، تؤكد على الحاجة الملحة لمعالجة الاحتباس الحراري لحماية أحد أكثر البحار شهرة في العالم.
تُقدم دراسة (PNAS )تحذيرا صارخا من المستقبل المحتمل للبحر المتوسط، حيث يهدد الاحتباس الحراري بتحويل هذا البحر الغني بالتنوع البيولوجي إلى نظام بيئي استوائي، من خلال الاعتماد على الأدلة التاريخية ونمذجة المناخ الحديثة، توفر الدراسة خريطة طريق لفهم هذا التحول ومعالجته.
مع استمرار ارتفاع درجات حرارة البحر، يصبح الوقت جوهريا لاتخاذ إجراءات منسقة لحماية النظم البيئية في البحر المتوسط ودعم المجتمعات التي تعتمد عليها.
وينظر الى الحفاظ على التوازن البيئي في البحر المتوسط ليس مجرد قضية بيئية، بل هو ضرورة اقتصادية وثقافية للمنطقة بأكملها.
تعتمد الدراسة على نهج فريد، حيث تستخدم سجلات الحفريات من فترة الدفء الأخير (من 135,000 إلى 116,000 سنة مضت) للتنبؤ بالتغيرات البيئية المستقبلية.
خلال تلك الفترة، كانت درجات الحرارة العالمية أعلى بحوالي 0.5 إلى 1.5 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة، مما يوفر نموذجا طبيعيا لسيناريوهات الاحتباس الحالية.
ومن خلال تحليل بقايا الحفريات البحرية للرخويات من هذه الحقبة، حدد الباحثون أدلة على استعمار أنواع استوائية من المحيط الأطلسي، مثل الحلزون المخروطي، للبحر المتوسط عبر مضيق جبل طارق.
هذه الأنواع، التي توجد عادة على السواحل الدافئة لغرب إفريقيا، ازدهرت في البحر المتوسط خلال هذه الفترة الدافئة، وتراجعت عندما بردت درجات الحرارة.
وتشير الدراسة إلى أنه مع ارتفاع درجات حرارة سطح المحيط الأطلسي التي أصبحت أعلى بـ1.3 درجة مئوية مقارنة بمستويات ما قبل الصناعة فإن الأنواع الاستوائية مهيأة مرة أخرى للغزو.
في سيناريوهات المناخ المتوسطة ، يتوقع الباحثون أن هذه الأنواع قد تستقر بشكل دائم في غرب البحر المتوسط بحلول عام 2050.
في السيناريو الأسوأ حيث تظل انبعاثات الغازات الدفيئة دون رادع، قد يصبح البحر المتوسط استوائيا بالكامل بحلول نهاية القرن، مما يترك تداعيات عميقة على الأنواع المحلية وسبل عيش الإنسان.
يعد مضيق جبل طارق، القناة الضيقة التي يبلغ عرضها 14 كيلومترا وتربط المحيط الأطلسي بالبحر المتوسط، البوابة الرئيسية لهذا الغزو.
على عكس شرق البحر المتوسط، حيث تدفقت الأنواع الغازية من البحر الأحمر عبر قناة السويس منذ افتتاحها عام 1869، كان غرب البحر المتوسط أقل تأثرا الأنواع غير الأصلية تاريخيا.
ومع ذلك، فإن مياه المحيط الأطلسي المتزايدة الدفء تمكن الآن الأنواع الاستوائية من البقاء على قيد الحياة في رحلتها عبر المضيق.
من المتوقع أن تستعمر أنواع مثل المرجان الشعابي الأفريقي الغربي وصندوق الجواهر الشوكي البحر المتوسط، متغلبة على الأنواع المحلية مثل بلح البحر المتوسطي.
تشير نماذج الدراسة إلى أن ارتفاع درجات حرارة المياه في المحيط الأطلسي يخلق “جسرا حراريا” يسمح للأنواع الاستوائية بالازدهار في بيئة البحر المتوسط المتزايدة الدفء.
سجلت درجات حرارة سطح البحر المتوسط بالفعل مستويات قياسية، وهذا الاتجاه الاحتراري واضح بشكل خاص في شرق البحر المتوسط، لكن الدراسة في PNAS تحذر من أن غرب البحر المتوسط أصبح الآن معرضا للخطر أيضا، حيث تستغل الأنواع الأطلسية الظروف المناخية المتغيرة.
تشير الدراسة أيضا إلى أن بعض الأنواع الغازية قد تجلب فوائد محتملة، مثل التكيف مع المياه المتزايدة الدفء التي أصبحت غير مناسبة للأنواع المحلية.
ومع ذلك، فإن الخسائر الإجمالية في التنوع البيولوجي قد تفوق هذه الفوائد، حيث تختفي الأنواع الأصلية التي تشكل أساس النظم البيئية والاقتصادات المحلية، مثل صيد الأسماك وتربية المحار.
لن تؤثر “الاستوائية” المتوقعة للبحر المتوسط فقط على النظم البيئية البحرية، بل ستؤثر أيضا على المجتمعات البشرية التي تعتمد على البحر لكسب عيشها.
يعيش ملايين الاشخاص في حوض البحر المتوسط بالاعتماد على صيد الأسماك، والسياحة، وتربية الأحياء المائية، وهي صناعات حساسة للتغيرات في التنوع البيولوجي البحري.
على سبيل المثال، قد يؤدي انخفاض أعداد بلح البحر المتوسطي إلى خسائر اقتصادية في قطاع تربية الأحياء المائية، بينما قد تؤثر الأنواع السامة مثل أسماك التنين على السياحة الغوصية بسبب المخاطر الصحية.
علاوة على ذلك، قد تؤدي التغيرات في توزيع الأنواع إلى اضطرابات في سلاسل التوريد الغذائية، مما يؤثر على أسواق المأكولات البحرية المحلية والإقليمية.
يحذر الباحثون من أن هذه التغيرات قد تتطلب استراتيجيات تكيفية، مثل تعزيز تدابير الحماية البحرية أو تطوير تقنيات جديدة لصيد الأسماك للتعامل مع الأنواع الغازية.
وتؤكد الدراسة على الحاجة الملحة لتخفيف تغير المناخ لمنع أسوأ السيناريوهات الاستوائية.
يدعو الباحثون إلى تقليل انبعاثات الغازات الدفيئة للحد من ارتفاع درجات حرارة البحر، بالإضافة إلى استراتيجيات إدارة محددة للحد من تأثير الأنواع الغازية.
و تشمل التوصيات حماية المناطق البحرية المحمية للحفاظ على التنوع البيولوجي المحلي، ومراقبة تدفق الأنواع عبر مضيق جبل طارق، وإجراء المزيد من الأبحاث لفهم التفاعلات بين الأنواع الغازية والمحلية.
كما يوصي الباحثون بتدابير استباقية، مثل إدخال مفترسات طبيعية أو استراتيجيات صيد مستهدفة للسيطرة على أعداد الأنواع الغازية مثل أسماك التنين. ومع ذلك، فإن التحدي يكمن في غياب مفترسات طبيعية في البحر المتوسط، مما يجعل هذه التدابير معقدة ومكلفة.