سوسنة، اسراء صبح
عندما يسير كل شيء على ما يرام في دورة حياة عصفور الدوري، في منطقته الأصيلة في الشرق الأوسط، فان حادث واحد قد يضع حدًا لحياة هذا الطائر المغرد، لكن هذه المرة ليس بسبب البشر او القطط او الجوارح.
يحدث ذلك بسبب عصفور آخر. انه الماينا الشائع. وهذا تهديد آخر يضاف الى سلسلة التهديدات الكلاسيكية.
كان الماينا الشائع طائرًا جديدًا دخل الى فلسطين الطبيعية، وأخذ يتحول وجوده إلى مشكلة حقيقية تهدد النظام غير المستقر في مملكة الطيور.
لم تكن فلسطين وجوارها من مناطق حوض المتوسط، خلال السنوات الماضية بمنأى عن تهديد الماينا الشائع، ولم يكن البشر أول المتضررين، فمملكة الطيور أيضًا واجهت على مدار السنوات الماضية، غازٍ شرس، هدد عروشها.
في عام 2019، بينما كان خالد حمودة، المرشد في مجال البيئة، يسير في شوارع بلدة قلنسوة، وهي مدينة عربية تقع بالمنطقة الوسطى من أراضي عام 48 ، لفت انتباهه “مشهد مؤسف”.
اقترب أكثر، ليرى عش دوري صغير يتعرض لهجوم من خمسة طيور من الماينا الهندي.
في تلك اللحظة، صراع داخلي دار في رأسه، بين رغبته في توثيق هذا المشهد المؤسف، أو حماية الطائر الدوري، اختار حماية “ابن بلده” من شراسة “المستوطن الغازي”، على حد وصفه.
هناك صراع بيئي آخر، لا يعكس فقط واقع الحياة البرية، بل يعكس أيضًا التحديات التي تواجهها الطيور المحلية بسبب غزو الماينا الهندي.
أصبح من الصعب، العثور على مختص في علوم البيئة يقول شيئًا ايجابيًا واحدًا على طيور الماينا.
في شوارع البلدات والمدن الفلسطينية وفي أي ركن تزداد أعداد هذا النوع من الطيور. لا ترتبط الامور بالتعداد الدقيق لها، بقدر ما يرتبط بازدياد تواجدها اليومي، أمام العامة.
في واقعة مشابهة من أحداث مرتبطة بعلاقة هذا الطير بمجموعة الطيور غير القادرة على الصمود أمام هجمات هذا الطير، يروي عماد الأطرش مدير جمعية الحياة البرية في فلسطين لـ “سوسنة”، “قبل ثلاثة أشهر كان لدي عصفور دوري وضع عشه في مكتبي في بلدة بيت ساحور قضاء مدينة بيت لحم، اقتحم المانيا العش، وأكل فراخها”.
يقول الأطرش “يعتبر طائر الماينا من أشرس أنواع الطيور الموجودة على الأرض، وهو طائر غازي جاء من الهند بأقفاص عبر البواخر”.
ويفيد “ظهر في بلادنا في بدايات القرن الماضي، بالتزامن مع زحف اليهود إلى فلسطين، وهو منتشر على مستوى العالم”.
تظهر القصص حول هذا الطير، شخصية للغاية. فالكثيرون يروون قصتهم القائمة على اعتداء الماينا على غيره من الطيور.
انه يتكاثر وينتشر ويقتل بسرعة فائقة ويصحب ذلك صوته الصاخب.
يقول الأطرش “طائر الماينا الشائع يتكاثر من أربع إلى خمس مرات في السنة”.
اما عن دوره في الطبيعة، يشير الأطرش “إذا راقبنا مكب النفايات في أريحا أو مكب زهرة الفنجان، نجد أن الماينا يتواجد هناك بكثرة، حيث أنه يأكل اللحوم الفاسدة، وامعاء الدجاج”. هذا يفسّر بأن مكبات النفايات توفر له بيئة مناسبة للنمو.
على الرغم من أن الماينا يؤدي دورًا هامًا في تنظيف الطبيعة من القمامة، إلا أن خطره لا يمكن تجاهله.
“فهو يهاجم أعشاش الطيور الأخرى، ويتناول فراخها” يقول الأطرش.
“لا يمكننا تجاهل وجود الماينا في بيئتنا، فهو ليس فقط طائرًا مغردًا كما يشاع سبب مجيئه، بل غازٍ خطر يهدد التنوع الحيوي في فلسطين”. أضاف
لم يكن الماينا الشائع وحيدًا في نشر الخراب عبر حياة الطيور الأضعف.
قال الأطرش “هناك طيور غازية أخرى تجتاح البلاد، منها الدرة الهندية، والراهب الهندي، والحباك الهندي، والغراب الهندي”.
لقد وصل الماينا إلى فلسطين، عبر رحلة حمله المسافرون على متنها، كطائر زينة، لكنه افلت وانتشر بجنون.
كان حمودة، شاهدًا على مرحلة انتشار الماينا الشائع، حين عمل في حديقة سفاري داخل اراضي عام 1948 التي جُلب اليها هذا الطائر.
يقول حمودة لـ “سوسنة، “تم استخدام الماينا كحرب بيولوجية لمكافحة الحشرات في أستراليا، ولكن لم يتوقع أحد سرعة انتشاره على نطاق واسع، وأصبح لاحقًا يسبب تهديدًا كبيرًا للبيئة” مشيرًا إلى أن الماينا في بيئته الطبيعية (شرق آسيا والهند)، لا يسبب ضررًا، بسبب وجود منافس بيئي له.
ويضيف “في فلسطين، بدأ انتشار هذا الطائر في التسعينيات بعد هروبه من أقفاص حديقة سفاري بتل أبيب، وأصبح اليوم أحد الطيور الغازية الأكثر شراسة”.
وهكذا تجري عملية اقتحام مجرى حياة الطيور الاخرى. احتلال واختطاف وطرد.
قال حمودة “يقتحم الماينا أعشاش الطيور، يطرد الحمام منها، يختطفها، ويتغذى على طعامها، مما يجعله خطرًا على الأنواع المحلية مثل الدويري والبلبل والشحرور وعصفور الشمس الفلسطيني” مشيرا إلى أن الدويري تقلص عدده بشكل كبير.
وأضاف “تقلص أعداد هذه الطيور يضر بالبيئة، فهناك طيور تتغذى على الحشرات، وفي حال عدم وجودها سنرى آفات زراعية لم نشهدها من قبل”.
وبحسب هيئة الأمم المتحدة، فإن هذه الطيور تسبب خسائر تقدر بـ 1.4 تريليون دولار على مستوى العالم. وفق ما ذكره حمودة.
تظهر بعض دول العالم القريبة والبعيدة جهودًا متواصلة للحد من انتشار هذا الطائر.
وقال حمودة “في عُمان، استخدموا خبراء لاصطياده، لكن المهمة كانت صعبة، بل كادت مستحيلة، ويعود ذلك إلى أن الماينا طائر ذكي، دقيق المراقبة لما يجري حوله، وحذر جدًا”.
ان الكثير من الخبراء والمراقبين في الطبيعة، لديهم ما يقولونه عن ذلك عن تفاصيل سنوات طويلة من مراقبته.
كان عماد أبو دواس، المهتم بالشأن البيئي، واحد من المصورين البيئيين الذين قاموا بتصوير طائر الماينا، ومتابعة سلوكه خلال السنوات الماضية إلى الآن.
يقول أبو دواس لـ “سوسنة”، “تصوير الماينا قبل عشر سنوات كان يمثل لحظة فريدة، فقد كان وجوده ليس شائعا بكثرة في البلاد، ولا حتى على مواقع التواصل الاجتماعي”.
ويوضح دواس “الماينا الشائع يفضل التواجد في المناطق العمرانية والمكتظة بالسكان، حيث يمكن العثور عليه حول البنايات وحول بقايا الطعام واللحوم”.
“كنت ألاحظ تواجده على أطراف المناطق المبنية، ولكن في الآونة الأخيرة، ازدادت أعداد الماينا بشكل ملحوظ، حيث بدأ في التوسع إلى المناطق الزراعية”، اوضح دواس.
ويذكر “يتجمع الماينا بأعداد كبيرة على أشجار السرو، خاصة وقت الغروب، ويصدرون أصواتًا مزعجة”.
ان ما يثير القلق من تواجده، هو سلوكياته العدوانية تجاه الطيور المحلية، حيث يسعى الماينا لمنافسة طائر الدوري، الذي يشاركه في الكثير من الخصائص السلوكية.
يقول دواس “يسعى الماينا للتفوق على الدوري في مصادر الغذاء وأماكن التعشيش”.
ويروي قصة حدثت معه “في موسم التعشيش، مايو / أيار الماضي، بمنطقة تدعى المخبة، والتي تقع شمال شرق طوباس، وهي منطقة شفا غورية، وجدت الماينا يدخل إلى عش الدوري، ويعبث به، وعندما عدت إلى المنطقة بعد مدة قصيرة، لم أتمكن من العثور على أعشاش الدوري”.
ويؤكد دواس أن “التهديد الحقيقي يكمن في التكاثر السريع لأعداد الماينا، مما يؤدي إلى زيادة حاجته الى مصادر الغذاء، وأماكن للتعشيش، وهذا ما يدفعه ليكون شرس وعدواني مع الطيور المحلية”.
تتجه جموع الماينا الشائع، بعد سنوات من هجومها، إلى مسارات تخريب جديدة كل يوم. توسع نطاق تواجدها، لكن مع علم الكثيرين من الخبراء البداية، لا أحد يعرف كيف سينتهي هذا الغزو!