القنبلة الكربونية الأكبر لم تنفجر بعد في غزة
سوسنة، جميل ضبابات
على امتداد قطاع غزة، تتكدس الأبنية المدمرة وسط غبار كثيف ودخان متصاعد يوميا، لكن ما لن تلتقطه الكاميرات بسهولة هو أثر آخر لا يقل فتكا: قنبلة كربونية ضخمة أطلقتها هذه الحرب في سماء العالم.
مع تغول الالة العسكرية الاسرائيلية واستمرار القصف الجوي، أصبحت السماء أكبر مسرح للتلوث الكربوني.
دراسة أكاديمية جديدة، بعنوان “الحرب على المناخ: دراسة متعددة الأزمان لانبعاثات غازات الدفيئة في الصراع الإسرائيلي–الغزي”، كشفت أن العمليات العسكرية المباشرة أفرزت نحو مليون و898 ألف طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
وعند احتساب الانبعاثات التي سبقت الحرب مثل بناء شبكة أنفاق حماس والجدار العازل الإسرائيلي والانبعاثات المتوقعة من إعادة إعمار غزة والمناطق المتضررة في لبنان، يقفز الإجمالي إلى أكثر من 32 مليون طن، وهو رقم يفوق الانبعاثات السنوية في 102 دولة.
أعد الدراسة فريق بحثي دولي ضم باحثين من جامعات ومراكز متخصصة في بريطانيا وغانا والولايات المتحدة وأوكرانيا، ونُشرت عبر منصة SSRN، الشبكة البحثية التابعة لشركة “إلسيفير”، والتي تعد من أكبر المنصات العالمية لمشاركة الأبحاث قبل مراجعتها أكاديميا، بهدف إتاحة المعرفة للباحثين وصناع القرار بسرعة وشفافية.
البحث لم يكتف برصد الانبعاثات أثناء العمليات العسكرية، بل عاد إلى ما قبل اندلاع الحرب.
قُدرت انبعاثات شبكة أنفاق حماس، الممتدة نحو 500 كيلومتر والمبنية الأطنان من الخرسانة والفولاذ، بـ264 ألف طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
فيما أضاف “الجدار الحديدي” الإسرائيلي على حدود غزة نحو 293 ألف طن أخرى، ليبلغ مجموع الانبعاثات من التحصينات وحدها أكثر من نصف مليون طن.
وقال باتريك بيغر، مدير الأبحاث في معهد المناخ والمجتمع وأحد معدّي الدراسة في مقابلة مع منصة”سوسنة” أن “أكبر مساهم في الانبعاثات خلال أول 15 شهرا من الحرب هو وقود الطائرات، إذ تحرق الطائرات العسكرية كميات هائلة من الوقود، وتشغيلها على ارتفاعات عالية يضاعف الأثر المناخي لهذه الانبعاثات”.
وأضاف أن نصف كمية الوقود المحترق جاءت مناصفة بين الطائرات الحربية الإسرائيلية ورحلات الإمداد الأمريكية.
إلى جانب الطيران، ساهمت عمليات الشحن العسكري في تضخم الأرقام، إذ نقلت الولايات المتحدة وحلفاؤها نحو 50 ألف طن من الإمدادات إلى إسرائيل جوا وبحرا، مولدة أكثر من نصف مليون طن من الانبعاثات.
وعلى الأرض، شاركت يوميا نحو 250 دبابة و500 مركبة قتال مشاة في العمليات، مستهلكة ما يصل إلى 23 مليون لتر من الوقود.
فيما أضاف تدمير محطة الكهرباء في غزة واعتماد السكان على مولدات الديزل نحو 131 ألف طن أخرى من الانبعاثات.
لكن القنبلة الكربونية الأكبر لم تنفجر بعد، إذ إن إعادة إعمار ما بين 156 ألف و200 ألف مبنى مدمّر أو متضرر من المنازل إلى المستشفيات والمدارس ستولد، بحسب الدراسة، نحو 26.8 مليون طن من الانبعاثات نتيجة الحاجة الهائلة للإسمنت والخرسانة والصلب.
ويقول بيغر “استبدال هذا الحجم الهائل من المباني يعتمد بشكل كبير على مواد ذات بصمة كربونية عالية، ما يجعل إعادة الإعمار في حد ذاتها تحديا مناخيا”.
الضرر امتد إلى جنوب لبنان، حيث أدى القصف إلى تدمير نحو 3,600 منزل، وإعادة بنائها ستضيف ما يقرب من 367 ألف طن من الانبعاثات، بينما أنتجت جبهات القتال الأخرى، من اليمن إلى إيران ولبنان، آلاف الأطنان من مكافئ ثاني أكسيد الكربون.
حتى طرق الشحن البحري تأثرت، إذ تسبب التصعيد في البحر الأحمر في زيادة الانبعاثات على بعض الخطوط بنسبة وصلت إلى 63%.
الدراسة لفتت أيضا إلى فجوات كبيرة في النظام الدولي لمحاسبة الانبعاثات العسكرية، فمعظم الجيوش، بما فيها الجيش الإسرائيلي، لا تقدم بيانات شفافة، واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ لا تلزم الدول بالإفصاح الكامل عن هذه الأرقام.
وقال بيغر في هذا السياق “لا نحتاج إلى معاهدات جديدة لبدء تتبع الانبعاثات العسكرية، بل نحتاج إلى قرار من مؤتمر الأطراف وتوجيه من الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ لجعل الانبعاثات العسكرية بندا منفصلا، يمكن مراجعته بوضوح ضمن النظام القائم”.
ويخلص معدّو الدراسة إلى أن الحرب على غزة ليست فقط مأساة إنسانية، بل هي أيضًا اختبار صارخ لكيفية تعامل العالم مع دول الجنوب في ظل تسارع أزمة المناخ.
ويقول بيغر “من الصعب تصور عالم يمكن أن تزدهر فيه المجتمعات في ظل ارتفاع درجات الحرارة إذا لم نتخذ خطوات فورية لوقف الحروب العدوانية التي تجعل الناس أكثر عرضة لتغير المناخ، بينما تسهم انبعاثاتها في تسريع الاحترار”.