“الكابتين” الذي كرس أيامه في خدمة البيئة الفلسطينية

سوسنة، خالــد أبـو علـي
صورة قلمية: في الطرف الهادئ من قرية حوسان، حيث تتعانق المدرجات الحجرية مع ظلال التين والزيتون، تنبض عين الهوية كأنها قلب الأرض، تنثر ماءها بهدوء على من يعرف سرها وكل من مرّ بها صدفة.
هناك، تجد رجلاً من أبناء البلدة الواقعة في محافظة بيت لحم جنوب الضفة الغربية، ملامحه من طين المكان، وابتسامته مشبعة بندى الصباح، والجميع يعرفه بـ”الكابتن”.
غصن يسيل منه الماء
” الكابتين ” ليس موظفا ولا متطوعا رسميا، لكنه حارس الروح لتلك العين القديمة، اعتاد أن يأتي مع أولى خيوط الضوء، حاملا معه بعض الأغراض وبعض اعواد القصب الذي جمعه من الوادي.
يومًا بعد يوم، نسج من القصب مظلة بسيطة عند حافة العين؛ ظلٌّ صغير تتكئ تحته العائلات الهاربة من ضجيج الحياة، والمزارعون الذين ينهون يومهم بالجلوس قرب الماء.
لكنه لم يكتفِ بالمكان كما كان؛ نظر إلى ماسورة النبع الحديدية، التي كانت تقذف الماء بشكل حاد، وكأنها لا تناسب رقّة العين ولا صوتها، فصنع منها مشهدا جماليا كأنه غصن دالية قديمة، بحيث تبدو وكأن الماء يسيل من عرق عنبٍ حيّ، قطراته تتلألأ في ضوء الشمس كأنها دموع حنين.
“الماء لازم ينزل بهدوء، زي اللي بيحكي حكاية”، هكذا قال الكابتن لي وهو يشير الى الصخور، يزرع الورود والميرمية ويمسح الغبار عن الحجارة ويزرع الزهور البرية الصغيرة حول المجرى.
لم تكن عين الهوية بالنسبة له مجرد نبع، بل ذاكرة القرية، ودفتر طفولته، ومكان الوداعات واللقاءات.
علّم “الكابتين”أبناء بلدته وأصدقائه من الزوار كيف يغسلون وجوههم من النبع بطريقته الخاصة، وكيف يصغون إلى صوت الماء كأنه موسيقى لا تنتهي.
اليوم، كل من يمر قرب العين، لا يجهل ذاك “الغصن” الذي يسيل منه الماء، أو تلك المظلة التي ظلت صامدة في وجه الرياح، وكأنها تقول: هنا، ما زال هناك أحد يحب الأرض كما يُحب الأم.
من هو “الكابتين” ؟
انه “الكابتن” بلال حمامرة قائد فريق الى القمر To The Moon هو أحد أبرز النشطاء البيئيين والمجتمعيين في قرية حوسان بمحافظة بيت لحم، ويمثل نموذجًا نادرًا للتكامل بين حب الأرض، والرياضة، والتراث.
شخصيته تجمع بين هدوء الفلاح وحماسة الرياضي ورؤية المثقف البيئي، وقد كرّس سنوات من عمره في خدمة الطبيعة الفلسطينية، تحديدا حول نبع عين الهوية.
من مواليد قرية حوسان، نشأ في بيئة زراعية تراثية، وتعلّق منذ صغره بمياه الينابيع والجبال المحيطة، حاصل على تأهيل احترافي في رياضات المغامرة والأنشطة البيئية، منها التسلق، والإنزال الجبلي (Rappelling)، والمشي في الطبيعة، دمج خبرته الرياضية بحسّه الوطني، فبدأ بتوظيفها في أنشطة تعزز العلاقة مع الأرض وتحميها من المصادرة أو الإهمال.
تبنّى الكابتن بلال مهمة رعاية عين الهوية كموقع تراثي بيئي لا يقل أهمية عن أي مَعلم أثري، وقام بشكل شخصي بـ: تنظيف النبع ومحيطه بجهوده الذاتية بشكل مستمر مع بعض المتطوعين، وبنى مظلة من القصب تقي الزوار من الشمس، بشكل بسيط وجميل ومتناسق مع البيئة.
وعمل أيضا على تجميل فتحة النبع (ماسورة المياه)، لتبدو المياه وكأنها تنساب من عرق عنب فلسطيني، كما قام بزراعة بعض النباتات المحلية حول النبع، وتنسيق المكان ليكون محطة راحة ولقاء لأهالي القرية والزوار.
أنشطة المغامرة في وادي المخرور
الكابتن بلال لم يكتف بعين الهوية كبؤرة لخدمة البيئة المحلية، بل وسّع نشاطه ليشمل وادي المخرور القريب من بلدة بتير، وهو وادٍ خلاب.
نظم فيه أنشطة بيئية مثل: الإنزال الجبلي (Rappelling) على الجروف الصخرية العالية ، المشي الطويل في الطبيعة (Hiking) مع مجموعات شبابية ومدارس، جلسات توعية بيئية في مواقع مفتوحة، لزرع الوعي حول أهمية الحفاظ على الأرض، ومقاومة تهويد الطبيعة.
رمزيته وتأثيره المجتمعي
يُنظر إلى الكابتن بلال في حوسان كأكثر من رياضي؛ بل هو حارس للذاكرة الطبيعية، ألهم العديد من الشباب ليشاركوا في تنظيف الطبيعة، والاهتمام بالينابيع، بدل الاكتفاء بالنقد أو الشكوى، فحوّل النبع من مكان مهمَل إلى رمز للصمود البيئي والهوية الفلسطينية.
*خالد أبو علي، هو باحث وناشط بيئي فلسطيني يقيم بين مدينتي رام الله وجنين، ويعتبر أيضا خبيرا في التخطيط الاستراتيجي والطاقة الخضراء وله إسهامات متعددة في تنظيم النشاطات الخضراء.