
سوسنة، اسراء صبح
يكفي أن تمشي في مناطق النزوح بقطاع غزة لتجد نفسك تحاول الإفلات من روائح النفايات المتراكمة حولك، والهرب من أسراب الذباب والحشرات التي تتسلل إليك وإلى خيام النازحين… هذا هو الحال في أكثر مناطق العالم اكتظاظًا بالسكان بعد انهيار نظام جمع النفايات هناك.
خلال الأشهر الماضية تحولت النفايات إلى قنابل موقوتة تهدد حياة سكان قطاع غزة الذين اضطر الآلاف منهم للسكن بين تلال النفايات التي تتراكم دون حل لتصريفها.
ربما لن تتمكن من شمّ الرائحة عبر هذا النص.. لكن تخيّلها؛ مزيجٌ من النفايات، بجميع أنواعها، ودخان كثيف، وتدفق مستمر لمياه الصرف الصحي، وهواء مسمم بمخلفات القنابل والصواريخ، هذا ما يتنفسه الناس هناك، كل يوم، ولك أن تتخيل أيضًا حجم الأمراض التنفسية والجلدية جراء ذلك.

الصورة: APA Images
في ظل الحرب المستمرة منذ أشهر طويلة على قطاع غزة، كان عاهد فروانة يجد نفسه مضطرًا مرات عديدة لحزم ما تبقى من أشيائه والفرار إلى وجهات مجهولة.
عاهد، الصحفي الذي اعتاد أن يوثق آلام الآخرين، أصبح اليوم أحد وجوه المعاناة المتنقلة، من حي الشجاعية شرق غزة إلى جنوب القطاع، ثم عودة إلى الشرق، فنزوح جديد إلى تل الهوى غرب المدينة. تنقّل أثقل كاهله وتركه شاهدًا حيًّا على قسوة النزوح وتفاصيل الحياة في الخيام، لا سيّما مع تفاقم أزمة النفايات.
يروي عاهد لـِ منصة سوسنة “الأوضاع المعيشية في مخيمات النزوح كارثية. الناس يعيشون في خيام متلاصقة، لا يوجد فيها أدنى شروط الخصوصية”، ملخصًا المشهد بقوله “نحن نعيش حياة بدائية بكل ما تعنيه الكلمة” !.
ويضيف، أن تراكم النفايات في محيط الخيام خلق بيئة خطرة على حياة النازحين.
“نحن نتحدث عن مئات الخيام، ولو أن كل خيمة أخرجت القليل من النفايات يوميًا، فإن الكميات المتراكمة تصبح مهولة، ولم يعد هناك مكان لتصريفها، فكانت تتكدس بجوار أماكن السكن، مسببة أمراض جلدية وتنفسية ومعوية، إضافة إلى انتشار الحشرات والروائح الكريهة”.
لم تكن النفايات وحدها ما يُفاقم معاناة النازحين، فمشقة استخدام دورات المياه تُضاف إلى سلسلة المعاناة، إذ اضطر كثيرون لحفر الأرض بجانب الخيام لإقامة دورات مياه بدائية تفتقر لأدنى شروط السلامة والخصوصية.
ويشير عاهد إلى أن هذه الدورات تزيد من الكارثة البيئية، حيث تُصرف المياه العادمة في نفس مناطق الخيام، مما يفاقم الأضرار الصحية لدى النازحين، ويحول المخيمات إلى بؤر للعدوى.
وتتضح فداحة هذه الكارثة البيئية عند النظر إلى البنية التحتية التي تعرضت لأضرار جسيمة خلال الحرب.
فبحسب الجهاز المركزي للإحصاء وسلطة المياه، فإن أكثر من 85% من مرافق وأصول المياه والصرف الصحي في القطاع خرجت عن الخدمة بشكل كلي أو جزئي.
بالرجوع إلى النفايات، يقول عاهد أن الوضع تفاقم بعد عودة الحرب الأخيرة، مشيرًا إلى أنه “قبل الحرب، كانت النفايات تُنقل إلى مناطق مخصصة للتخلص منها، بعيدًا عن أماكن السكن.
لكن خلال الحرب، أصبحت تتراكم في المخيمات”، مضيفًا أنه خلال الهدنة حاولت البلديات إزالة بعض النفايات، لكن بعد استئناف الحرب الشهر الماضي، عادت الأمور إلى الأسوأ.
ويوضح “في ظل القصف المتواصل ومنع الاحتلال نقل النفايات إلى المكبات الرئيسية، خاصة في شرق غزة، اضطرت بلدية غزة إلى وضعها في وسط المدينة، وتحول الأمر إلى كارثة بيئية حقيقية”.
ويلفت إلى أن بعض المواطنين، حاولوا التخلص من النفايات بحرقها في أماكن بعيدة عن الخيام، إلا أن هذه المحاولات جاءت بنتائج عكسية، “الحريق والدخان تسببا بأضرار أكبر، ولم يقدما حلاً حقيقيًا”.
ويذكر أن مدينة غزة تحديدًا كانت خالية من الخيام قبل الهدنة، لأن أهالي الشمال كانوا قد نزحوا إلى الوسطى والجنوب، ولكن بعد عودتهم إلى الشمال، عادت الخيام إلى المدينة ومعها عادت النفايات لتتكدس مرة أخرى دون وجود أي آلية لتصريفها.
وطالب بالسماح للبلديات بإدخال معدات وآليات لنقل النفايات، والتي يمنع الاحتلال وصولها منذ بداية الحرب، وتوفير الوقود اللازم، ودون ذلك ستظل الأزمة قائمة، بل وستتفاقم، مما يهدد بحدوث كارثة بيئية وصحية أكبر في كل مخيم وحي من أحياء غزة.

وقالت بلدية غزة في بيان سابق في شباط / فبراير 2025، إن مدينة غزة تعيش كارثة صحية وبيئية كبيرة، بسبب تراكم نحو 170 ألف طن من النفايات في الشوارع والمكبات المؤقتة، ويعود ذلك إلى منع الاحتلال لطواقم البلدية من الوصول للمكب شرق المدينة، وتدميره لنحو 80% من آليات البلدية، مشيرةً إلى أنها تضطر لجمع النفايات في مكبات عشوائية بين الأحياء السكنية.
تأكيدات البلدية تتقاطع مع تحذيرات دولية متكررة من تفاقم هذه الكارثة.
فقد أعلنت وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا” في بيان لها على منصة “إكس” في 28 آذار / مارس 2025، أنّ تراكم النفايات في قطاع غزة يُعرّض صحة الناس وحياتهم للخطر.
وأوضحت أنّ الكثيرين يُضطرون إلى السكن في خيام وسط أكوام النفايات.
وشددت على أن أزمة النفايات المتفاقمة تزيد من التحديات البيئية والصحية، مبينة أن كفاح الفلسطينيين للبقاء في ظروف إنسانية قاسية أصبح صعبًا بشكل متزايد.
وقالت حنان هيجاوي، رئيس قسم الطاقة المتجددة وتغير المناخ في سلطة جودة البيئة لـ منصة “سوسنة“، أن الهجمات الإسرائيلية أدت إلى تراكم أكثر من 42 مليون طن متري من الأنقاض في أنحاء قطاع غزة، يُرجّح أن معظمها ملوّث بمادة” الأسبستوس” المسرطنة، إلى جانب الذخائر غير المنفجرة وملوّثات سامة أخرى.
وأضافت أن القيود المشددة على دخول الوقود، إلى جانب نقص المعدات اللازمة، أعاقت انتشال آلاف الجثث التي لا تزال تحت الأنقاض، مما فاقم الأزمة البيئية والإنسانية بشكل خطير.
وأوضحت أن الحرب تسببت بانهيار شبه كامل لمنظومة إدارة النفايات الصلبة، ما أدى إلى إنشاء ما يقرب من 225 موقعًا مؤقتًا لتجميع النفايات في مناطق متفرقة من غزة، بعضها يمتد لمئات الأمتار.
كما نقل عن وكالة الأونروا أنه حتى شهر يونيو الماضي، كانت أكثر من 330 ألف طن من النفايات الصلبة قد تراكمت في المناطق السكنية، وهي كمية تكفي لملء ما يزيد عن 150 ملعب كرة قدم، وأصبحت مصدرًا مباشرًا لتفشي القوارض والحشرات والأمراض، خاصة بين السكان النازحين.
وإلى جانب الانهيار في إدارة النفايات الصلبة والبنية التحتية، كشفت الحرب عن آثار مناخية كارثية أيضًا. فقد أظهرت دراسة حديثة نشرتها صحيفة “الجارديان” ان انبعاثات الغازات الدفيئة الناتجة عن الحرب في غزة خلال الشهرين الأولين تجاوزت إجمالي البصمة الكربونية السنوية لأكثر من 20 دولة معرضة لتغير المناخ، وقد بلغت هذه الانبعاثات نحو 281 ألف طن متري من ثاني أكسيد الكربون، كان نحو 99% منها ناجمًا عن القصف الجوي الإسرائيلي والعملية البرية.
وعند وصول الحرب إلى يومها الـ 120 ارتفعت انبعاثات ثاني أكسيد الكربون إلى نحو 536,410 أطنان، وفقًا لتحليل مشترك أعده باحثون من المملكة المتحدة والولايات المتحدة ومركز بحوث الطاقة والهواء النظيف.
ولا تزال الدراسات مستمرة، في ظل صعوبة تقدير الأثر الكامل لانبعاثات الحرب بسبب استمرارها حتى الآن في أبريل 2025.
وفي ظل المطالبات المستمرة بإدخال الآليات الثقيلة لجمع ونقل النفايات بعيدًا عن أماكن الإيواء والنزوح.
نشر المفوض العام لـ “الأونروا”، فيليب لازاريني، على منصة “إكس” في آذار / مارس 2025، “لم تدخل أي مساعدات إنسانية إلى القطاع منذ أكثر من ثلاثة أسابيع، وهي أطول فترة منذ بدء العدوان قبل 18 شهرًا”، مشددًا على ضرورة رفع الحصار، وفتح المعابر، ووقف القصف، واستئناف وقف إطلاق النار.
وتشير لويز ووتريدج، المتحدثة باسم الأونروا، في تقرير للوكالة في تموز/ يوليو 2024، إلى أن موظفي الوكالة منعوا من الوصول إلى مكبات النفايات، كما تم تدمير العديد من مراكز الصرف الصحي التابعة للوكالة، والآليات المخصصة للتخلص من القمامة.
وأضافت “خلق ارتفاع درجات الحرارة المزيد من المشاكل، ولا يقتصر الأمر على الروائح الكريهة فحسب، بل يؤدي إلى انتشار الأمراض والآفات مثل الفئران والجرذان والبعوض التي تزيد من انتشار الأمراض”.
البلديات المحلية بدورها باتت عاجزة عن مواجهة الأزمة.
وفق بلدية غزة، فقد دُمّرت 132 آلية، أي ما يعادل 85% من إجمالي الآليات التابعة للبلدية.
وتتفاقم المشكلة بسبب عدم توفر قطع الغيار، إذ ان 80% من عربات وحاويات جمع القمامة إما مدمرة أو لحقت بها أضرار.
تُظهر هذه الأرقام أن قطاع غزة لا يواجه عدوانًا عسكريًا فحسب، بل أزمة بيئية تهدد حياة أكثر من مليوني إنسان يعيشون وسط النفايات، دون إمكانيات، ودون حلول.
ويبقى السؤال الأهم، ما هو مستقبل هؤلاء الناس في بيئة تتحول كل يوم إلى ساحة من التلوث الكارثي الذي لا ينتهي؟