سوسنة
عندما يشتد حر الصيف، لا يجد محمد دراغمة أحد مربي الماشية في الأغوار أفضل من ظل شجرة السدر للنأي بنفسه عن أشعة الشمس.
وعلى امتداد الشريط الشرقي للضفة الغربية، يمكن أن يكون مشهد استظلال قطعان المواشي بهذا الصنف من الأشجار شائعا جدا في الصيف الذي تتجاوز فيه درجات الحرارة حاجز الاربعينات وقد تصل إلى أكثر من ذلك.
“أنت تبحث عن الظل بعيدا عن الحرارة”. قال دراغمة وهو صاحب قطيع اعتاد أن يقضي معظم أشهر السنة في منطقة وادي المالح التي تشتهر باشجار السدر.
علميا هي (زيزيفوس سبينا كريستي)، وفي بلاد الشام، يطلق عليها اسم السدر أو النبق، وفي فلسطين تسمى ثمارها (دوم)، وحتى عقود قليلة مضت كانت هذه الشجرة مرتبطة ليس فقط بتوفير الظل في مناطق مفتوحة، إنما أيضا ببعض التقاليد الشعبية مثل تقديم النذور وجلب البركة.
وفقا لبعض التقاليد، كانت هي الشجرة التي صنع منها تاج الشوك الخاص بالمسيح قبل صلبه.
ويرتبط السدر بأحداث تاريخية وسحرية على طول تاريخ فلسطين، فقد حظيت أشجار السدر بوجودها ضمن قصص دينية في الأديان السماوية الثلاثة.
تمتد خريطة اماكن وجود السدر في فلسطين الطبيعية، في المناطق الغورية والبحر الميت ومنطقة الجليل في المناطق المحيطة ببحيرة طبريا، ويظهر بعض الفلسطينيين حتى اليوم علاقة مستمرة مع هذا النوع من الأشجار لاعتبارات مناخية مثل الذين يسكنون في المناطق الرعوية شرق الضفة الغربية.
وأنت تشاهد تقلص المساحات الخضراء في الأغوار الشمالية صيفا ضمن الانتقال الطبيعي من الربيع الى الصيف تزامنا مع تراجع فرص الحياة للنباتات البعلية خاصة في الشريط الشرقي للضفة الغربية، يبهرك شجر “السدر” بالقدرة الكبيرة على الاستمرار بتقديم مشهده الاخضر.
ومن مسافة بعيدة يمكن تمييز هذه الأشجار ومعرفتها، فبعد ان تصبح الارض جافة وخالية من أي غطاء نباتي أخضر، يبقى السدر وحده دائم الخضرة.
فأوراقها الصغيرة، والكثيفة، التي تمنحها لونا أخضرا غامقا، و اغصانها الشوكية المتراكمة تعطي ظلا مطلوبا في الصيف، يمكن معرفة هذه الشجرة التي تكثر في عدة مناطق بالأغوار الشمالية الحارة من مسافات بعيدة.
يقول مدير جمعية الحياة البرية في فلسطين عماد الأطرش “موطنها الطبيعي السفوح الشرقية، وهي شجرة مقاومة للجفاف والحرارة المرتفعة”.
يمكن مشاهدة السدر في مناطق بالضفة الغربية تسود فيها درجات حرارة أكثر اعتدالا من تلك التي في الأغوار، ورغم أنها نادرة الوجود في المدن الفلسطينية المرتفعة، الا ان رحالة غربيين سجلوا وجود عدد منها مثلا في أحد أودية مدينة القدس.
في الصيف الملتهب في الأغوار الشمالية، إحدى الامتدادات الجغرافية لأخفض نقطة في العالم، وبينما تأخذ درجات الحرارة بالارتفاع تماشيا مع الحالة الطبيعية للمناخ، تظهر أجيال مختلفة من أشجار السدر منها ما نبت خلال العقود الماضية، ومنها ما هو معمر.
ويمكن أن يصل عمر الواحدة منها 200 عام في المناطق الرعوية، وكلما كانت الشجرة أكبر عمرا كلما أعطت ظلا أكثر ثقلا وساهمت في خفض حرارة المكان.
لكن الأطرش يقول، إن الشجرة التي تنمو عند مصادر المياه تكون ذات اوراق أكبر حجما. على بعد عدة كيلومترات من منطقة وادي المالح، حيث يسكن دراغمة ويستفيد من ظل أشجار السدر، تشتهر منطقة الدير وهي منطقة قريبة من نهر الأردن بنمو أشجار سدر تضخمت بفعل وجود بعض مصادر المياه في محيطها.
مع نهاية شهر نيسان من كل عام، تبدأ موجة انتقال المزارعين من الأغوار التي تبدأ فيها الحرارة بالارتفاع، إلى أماكن أقل حرارة فيها، ومن يبقى في هذا الشريط الغائر، يجب عليه أن يواجه الحرارة المرتفعة هناك.
وبالنسبة لدراغمة، فإن شجرة السدر أهم ما يمكن أن يشجعه على البقاء.
في نهاية تشرين اول امكن رؤية عشرات رؤوس الماشية وهي تزاحم بعضها للفوز بشيء من ظلها.
تعطي صفات هذه الشجرة المعروفة بخشونتها درع وقاية ذاتيا لها لحماية نفسها، لكن الماشية والإبل، تستطيع في بعض الحالات تناول أوراقها.
ولا يوجد جزء من هذه الشجرة دون فائدة، ويمكن تناول ثمارها بعد جفافها، وهي ذات مذاق حلو محبب، علاوة على استخدام أغصانها، في إشعال النار وهو ما يرفضه المدافعون عن البيئة.
وبالنسبة للأطرش، فإن قطع أشجار السدر لإشعال النار والاستفادة منها، عامل تهديد لهذه الشجرة.
لم تكن شجرة السدر فقط محاطة بالقداسة، إنما ظهرت بشكل واضح في الأدبيات الطبية، من خلال استخدام بعض مكوناتها في علاج عدد من الأمراض.
وحتى وقت قريب كانت تظهر شجرة السدر واحدة من المكونات الطبية التي يبيعها العطارون في بعض أسواق الضفة الغربية.
تأخذ هذه الشجرة مكانة طبية في حياة المواطنين، لاعتقادهم ان غلي أوراقها الصغيرة علاج لكثير من المشاكل في الجهاز الهضمي والأرق الذي يمكن أن يرافق أحدهم ليلا.
حتى منتصف هذا القرن كانت بعض اشجار السدر، تحظى باحترام وتقديس في بعض القرى والمناطق الفلسطينية، وفي عمق منطقة الأغوار الشمالية، يتحدث السكان هنا عن شجرة سدر مقدسة قرب قرية الحمة، اعتاد بعض المواطنين هناك قبل عشرات السنوات طلب الأماني تحتها.
في مناطق اخرى سجلت بعض القصص حول شجرة السدر، لكن معظمها لا يتعلق بالمناخ أو ارتفاع درجات الحرارة، ففي مناطق الجليل ظل إشعال القناديل مستمرا تحت بعض اشجار السدر حتى خمسينات القرن الماضي للتبرك وجلب الحظ.
رغم كل تلك القداسة والهالة الاسطورية المحاطة بالسدر، ورغم وجودها كعنصر طبيعي يخفف من آثار الاحترار القاسي في الصيف، لا غريبا أن تستخدم في بعض المناطق المفتوحة كعلامة طبيعية خاصة توضح الحدود بين الأملاك والأراضي.