سوسنة، عبد الرحمن القاسم
كانت أشجار النخيل وقصب السكر والحمضيات منذ فترة طويلة الغطاء الأخضر السائد في أريحا ويذهب انتاجها اما محليا او للتصدير، لكن جزء من تلك الانواع صمد، فيما تلاشى قصب السكر نهائيا.
وعودة الى التاريخ قبل ألف عام خلال الوجود الفرنجي في الشرق، اعتبرت فلسطين من المناطق الھامة في زراعة قصب السكر وتصنيعه، وغلب هذا الغطاء الأخضر على بعض المناطق مثل أريحا.
وايضا في تلك الفترة كان ذلك الغطاء الأخضر منتشر في الغور، وصفد، وعكا، ونابلس وقيسارية، كما تذكر بعض المصادر التاريخية، إذ توفرت عوامل نجاح تلك الزراعات مثل: المياه، وخصوبة التربة، والمناخ.
وكانت صناعة السكر من أبرز الأنشطة الاقتصادية الرئيسية السائدة في وادي الأردن خلال فترة العصور الوسطى حسب السجلات التاريخية والأثرية، و منها ما ذكره المؤرخ ياقوت الحموي عن أريحا في عام 1225 التي وصفها بأنها مدينة مشهورة بزراعة قصب السكر والتمور.
وقصب السكر أو القصب نبات من الفصيلة النجيلية، وهو من النباتات التي تزرع فى المناطق الحارة، ويعد المصدر الأساسي لاستخراج السكر.
تعتبر أريحا التي تقوم فوق أرض تعتبر أكثر منطقة منخفضة عن سطح البحر، مزيجا من تنوع الزراعات التي تحتاج الى الحرارة العالية صيفا والمعتدلة شتاء وتوفر مصادر المياه العذبة فيها مثل قصب السكر.
تدريجيا تم التخلي عن زراعة قصب السكر، مع توسع في الغطاء الأخضر الأكثر قابلية للتصدير مثل التمور والخضروات، فقد دخلت اريحا الالفية الجديدة بتغييرات كثيرة في طبيعتها منها تلاشي بعض أنواع الزراعات وصعود انواع اخرى.
كان مصنع السكر والمعروف باسم “طواحين السكر” يقع في الجزء السفلي من جبل القرنطل (التجربة) الذي تقول الروايات الدينية، ان السيد المسيح صام واعتكف فيه، وهو بعد على بعد امتار من تل السطان (أريحا القديمة التي بنيت قبل 10 آلاف سنة).
ويقول إياد حمدان مدير عام السياحة والآثار بمحافظة اريحا والاغوار، ان التنقيبات كشفت عن مكونات الموقع وهي: نظام المياه الخاص بزراعة قصب السكر، و المعصرة، و الأرض الزراعية.
وتتكون بقايا المنشآت الصناعية في الموقع من قناة المياه، و ساحة و معصرة و طاحونة و مصفاة و فرن ومطبخ وأماكن تخزين.
وكانت المعصرة تقوم على خمسة مدرجات اصطناعية، ويتم تشغيل الطاحونة عن طريق المياه المتدفقة عبر قنوات متصلة بينابيع عين النويعمة وعين الديوك عند السفح الشمالي الشرقي من جبل قرنطل .
ويوضح حمدان أنه عثر على مجموعة من المواد تدل على مختلف الأنشطة المتعلقة بإنتاج السكر كالأواني الفخارية، وأسرجة مصنوعة من الفخار، واواني مخروطية الشكل تستخدم لتخزين السكر، وهي أواني من الفخار ضيقة من الأسفل ومتسعة من الأعلى، وتختلف من حيث الحجم والسعة، ووظيفتها تقطير ما يستخلص من عصير القصب، تثبت على جرار فخارية لجمع عصير القصب بعد تصفيته ” دبس السكر”.
ويدل العدد الضخم من حطام الأواني على أن الموقع شهد انتاجا واسع النطاق للسكر، ووجد في المطبخ عدد من الأواني النحاسية، وقطع معدنية آخرها من أبرزها: قصالات و صفائح معدنية مثقوبة وابر و خواتم و سلاسل وحلي.
بالقرب من الفرن هناك العديد من بقايا النفايات الناتجة عن صهر المعادن تشير إلى أن الموقع شهد نشاطات تتعلق بصناعة الحديد، كما وجدت العديد من قطع النقود التي تعود إلى الفترة الأيوبية المبكرة.
ويؤكد حمدان أن فلسطين كانت تنتج وتصدر السكر من عدد من الطواحين يشير الى ذلك أيضا قول ياقوت الحموي في زيارته لفلسطين ” إنه لم يذق أطيب من سكر فلسطين”.
وأشار إلى أن وزارة السياحة والآثار انتبهت لهذا الموقع مطلع العام 2000م، وأجرت فيه عددا من الحفريات الأثرية والعملية آخرها كان في العام 2002م.
والزائر لهذا المواقع يلحظ انها الى الان ما زالت تعاني الإهمال وندرة وجود زراعة القصب في أريحا.
ووفقا لرأي المهندسين والمختصين الزراعيين، فإن زراعة القصب تبدأ من شهر آذار (مارس)، ويحتاج هذا النبات إلى ثماني أشهر لقطف أعواده، ويتميز بقدرته الكبيرة على الصمود في وجه المتغيرات المناخية والأمراض التي تعاني منها الكثير من المزروعات.
قصب السكر يزرع بشكل أفقي، ويحتاج إلى الشمس بالكامل، وبالتالي لا يجب زرعه في المناطق المظللة، مع ضرورة أن تكون التربة المعدة للزراعة ذات تصريف جيد للمياه مع الحاجة إلى التعشيب المستمر حتى ينمو بشكل جيد.
في الوقت الحاضر، مازال قصب السكر يزرع في قطاع غزة.
وشهدت الأعوام الماضية التي سبقت الحرب الحالية تذبذبا في انتشار زراعة قصب السكر في غزة، ولكن ضعف تسويقه وتصديره أدى لتراجع فكرة زراعته لدى الكثير من المزارعين.
ويتراوح سعر عود القصب الواحد ما بين اثنين إلى ثلاثة شيكل( نحو ثلاثة أرباع دولار امريكي واحد)، وتبتاعه محلات العصائر في قطاع غزة لتقديمه كشراب طبيعي فوري للزبائن.
في تلك الأوقات التي صعد فيه نجم هذه الزراعة تاريخيا في أريحا، اسھمت زراعة قصب السكر وتصنيعه في دعم المجھود الحربي للفرق الرھبانية المحاربة كاالسبتارية، والداوية، والفرسان التيوتون، فقد كان السكر مادة أساسية في صنع الادوية المقدمة للجرحى، أو الحجاج في مشافي ھذه الفرق.
والمفارقة كما تشير المصادر التاريخية، أن تدمير هذه المزارع كان هدفا للجيوش الإسلامية لاستهداف اقتصاد الفرنجة وتحرير البلاد الإسلامية من احتلالهم لفلسطين.
ويشير الأكاديمي عبد الرحمن المغربي في دراسة بحثية نشرتها جامعة النجاح قبل سنوات الى عوامل أخرى لتراجع زراعة السكر في فلسطين منها بروز منافس اخر للسكر من البنجر في ألمانيا عام 1749.