سوسنة
وادي المالح( الاغوار)
حتى 15 عاما مضت، كان بالإمكان ملاحظة أن الربع ساعة الأخير من حياة اللون الاخضر وادي المالح شرق الضفة الغربية قد شارف على الوصول الى اللحظة الاخيرة.
كان جريان الماء واضحا وقامت على طرفي الوادي مكونات البيئة النباتية والحيوانية البرية بوظائفها الطبيعية؛ النمو والتكاثر والاستمرار في الحياة، لكن قبل ذلك بسنوات بدأت كمية المياه الجارية تتناقص تدريجيا كما يروي سكان المنطقة، وتكشف الصور الارشيفية صورا مختلفة تماما عن الواقع اليوم.
وتندرج المنطقة التي تضم واحدا من أشهر الأودية في شمال شرق الضفة الغربية، وتحديدا في الأغوار الشمالية، حسب التعريف العلمي ضمن المناطق “المناطق الرطبة”.
ويأتي تعريف الأراضي الرطبة حسب الأمم المتحدة، أنها أنظمة بيئية حيث الماء هو العامل الأساس الذي يتحكم في البيئة والحياة النباتية والحيوانية المرتبطة بها.
وكان الوادي قبل عقود واحدا من مغذيات الحياة لعائلات فلسطينية سكنت المنطقة، واعتمدت على مياهه المنسابة بشكل كبير في زراعتها وري مواشيها.
كان الوادي عبر التاريخ واحد من مغذيات نهر الأردن.
والمنطقة التي تلتهب صيفا، بسبب انخفاضها عن مستوى البحر، كان عدد سكانها حسب التعداد السكاني الاخير الذي اجراه الجـهـاز الـمـركـزي لـلاحـصـاء الـفلسطيني، عام 2017، (351)، ويتوقع حسب تقديرات الجهة الخاصة بإحصاء عدد السكان أن يصل عددهم عام 2026،إلى( 425) نسمة.
لكن التأكد من هذا الأمر بعد رحيل عدة عائلات من المنطقة، تحت ضغط اجراءات السلطات الاسرائيلية من ناحية والتغييرات التي طرأت على منابع المياه، قد يؤدي الى انحدار الرقم الى ما دون العدد عام 2017.
هذه الأيام أصبحت مياه الوادي جزءا من التاريخ المحكي لدى الفلسطينيين الذين عاشوا فترة ازدهاره وشاهدوا المياه تجري لعدة كيلومترات فيه.
كانت عشرات العائلات الفلسطينية (يختلف الرقم بسبب الترحال المستمر) تسكن قرب مجرى الوادي، وتعتمد بالدرجة الأولى في حياتها على مهنة الرعي.
فأين اختفت مياه وادي المالح؟.
مدير جمعية الحياة البرية عماد الأطرش، أرجع الأسباب الرئيسية لاختفاء مياه الوادي العريق إلى استنزاف المياه الجوفية المغذية للينابيع، اضافة الى تعمق ظاهرة التصحر، وارتفاع درجة حرارة الأرض، والتغير المناخي.
وهذه الأسباب منطقية، لاختفاء المياه من الوادي طيلة أشهر العام.
شهادة نبيل مطاوع، أحد المعاصرين للزمن الذهبي للوادي قال: “كان مئات الأشخاص يتوافدون إلى المنطقة للعلاج والاستجمام”.
وعلاوة على الاستجمام، تواترت شهادات من مواطنين عن نجاح فكرة الزراعة المروية، بالاعتماد على مياه الوادي.
“مرت سنوات على الوادي ممتلئا بالمياه(..)، بعض مقاطع الوادي لا تستطيع العبور منها”.
في عامي 1988-1989، شهد نبيل ذاته استغلال أحد المواطنين مياه الوادي وزراعة مساحات من أراضي “أم الجمال، وعين الحلوة”، لزراعة البطيخ.
المواطنون الذين شهدوا تلك الفترة يتحدثون بلغة الفخر عن هذا الوادي.
“كان الواد جارياً(..)، آلاف الدونمات كانت تسقى من مياهه الجارية على مدار السنة، وصولاً إلى نهر الأردن”.
وحسب ما نشر على الموقع الإلكتروني لسلطة المياه، فيما يتعلق بالمياه السطحية في الضفة الغربية، يقدر المعدل طويل الأمد لمياه الفيضانات المتدفقة عبر الأودية في الضفة الغربية بحوالي 165 مليون متر مكعب سنوياً.
ويحدث الجريان عند زيادة معدل سقوط الأمطار على معدل امتصاص التربة للمياه حيث تبدأ المياه الفائضة بالتجمع والتركيز بعد فترة في الوديان والمجاري الصغيرة وتنمو شيئاً فشيئاً حتى تسلك مجرى الوادي الرئيسي على هيئة موجة تعتمد في سرعتها وشدتها على قوة العاصفة المسببة لها وأسباب أخرى مثل حجم الوادي وميوله وطبيعة الأرض واستقامة الوادي أو انحناءه.
وبحسب سلطة المياه، تم تقدير المجموع الكلي لمياه الفيضانات المتدفقة عبر الأودية في الضفة الغربية للعام 2016 بحوالي 125 مليون متر مكعب، وبلغ أقل من المعدل السنوي العام المقدر بحوالي 165 مليون متر مكعب.
عندما زار الأطرش الوادي العام 1997 كان جريان المياه فيه ما زال واضحا ، لكن بكثافة أقل من السنوات السابقة.
وهذا يعني أن جفاف الواد استغرق سنينا متتالية كانت فيها العوامل البشرية والطبيعية المسببة لاختفاء المنطقة الرطبة هناك حاضرة بقوة.
وبحسب روايات من سكان قريبين من الواد فقد جف بشكل كامل عام 2010 تقريبا.
إن جفاف مجرى الوادي لا يعني خروجه من نطاق المناطق الرطبة، فالعامل الأول لكون المناطق رطبة، هو مصادر المياه.
تغذي سبعة ينابيع، الوادي الذي كان يشق طريقه إلى نهر الأردن، وبعض الينابيع التي كانت تغذيه كانت تطرح مياه معدنية حارة، لذلك استخدمت مياهه لعقود طويلة للسياحة العلاجية.
وعلى مقربة منه، بنيت غرف خصصت قديما لهذا الغرض تسمى “الحمامات”، بالإضافة لمبنى تاريخي استخدم كمنامة للباحثين عن الاستشفاء.
وتعد منطقة المالح جاذبة لعشرات الأنواع من الطيور خاصة الجارحة والمائية للمكوث فيها، مثل أبو ملعقة، والعقاب النساري.
فالطيور المحلقة والجارحة وكبيرة الحجم مثل بعض انواع الصقور تقطع جزء من رحلاتها عبر أجواء الأغوار، وأحيانا الجبال وتقطع نحو 900 كيلومتر في النهار الواحد.
وقال الأطرش، إن عشرات الأنواع من النباتات تعيش في هذه المنطقة مثل الطحالب والحلفا، والبوص.
واضاف “المنطقة الرطبة تخلق نظاما بيئيا متكاملا”.
على مقربة الوادي كان الرتم والسدر من أكثر النباتات نموا في هذه المنطقة، وأمكن في السنوات الماضية تسجيل سوسنة فقوعة، والسوسنة البنية الداكنة على مقربة من الوادي.
يعطي الوادي نظاماً بيئيا متكاملاً في المنطقة كلها، واليوم، بسبب جفاف الوادي اختل النظام البيئي كثيرا.
يقول الأطرش: “مع توافر المياه يتكون نظام بيئي متكامل، لكن فقدان المياه يحدث خللا بذلك النظام”.
كانت رؤية الغزلان التي ترد على على ضفاف الوادي مشهدا مألوفا لدى السكان، لكن مع التناقص المستمر لمنسوب جريان الوادي حتى جفافه جعل المشهد نادرا.
وتترك العوامل البشرية بالتوازي مع الضغط المستمر الذي يفرضه التغير المناخي تأثيرا واضحا على منطقة الغور شرق الضفة الغربية.
في تقرير(نهب واستغلال: سياسة إسرائيل في غور الأردن وشمال البحر الميت) نشر على الموقع الالكتروني لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة “بتسيلم”، فقد سيطرت إسرائيل على معظم مصادر المياه في الأغوار الفلسطينية وهي تخصصها للاستعمال الحصري تقريبا للمستوطنات.
وبين معظم عمليات التنقيب عن المياه في مناطق الضفة الغربية، هناك ( 28 من بين 42 ) عملية تنقيب عن المياه تحدث في غور الأردن.
وبحسب “بتسيلم”، تستخرج إسرائيل من عمليات التنقيب المذكورة حوالي 32 مليون متر مكعب سنويا، معظمها مخصص للاستعمال من قبل المستوطنات.