سوسنة، اسراء صبح
ضبع للبيع! إعلان ظهر على الإنترنت، لكنه لم يكن مزحة. أنثى ضبع صغيرة، مقيدة ومسلوبة الحرية، عُرضت كسلعة تنتظر المشتري.
كان ذلك في أيار / مايو 2019، عندما عثر عليها وهي بعمر الأربعة أشهر، تم اصطيادها في محافظة الخليل، جنوب الضفة الغربية، وحاول الصياد الذي قيد حريتها أن يبيعها عبر الانترنت.
تدخلت حينها سلطات حكومية فلسطينية شرطية وسلطة جودة حماية البيئة، وخبراء من المتحف الفلسطيني للتاريخ الطبيعي، وأنقذوها، وأطلقوا عليها اسم “ليندا”.
ليست هذه الحالة الوحيدة التي تهاجم فيها الضباع، بل هناك العديد من الحالات التي تعرضت للضرب والاصطياد، والمتاجرة، ومنها انتهت بالقتل.
ففي مدينة الخليل، تعرضت أنثى ضبع للضرب بالعصي في وقت سابق حتى الموت، واكتُشف فيما بعد أنها كانت حامل.
لم يسلم حينها الجنين، فمات هو وأمه.
كانت اخر احداث قتل الضباع المعلن عنها حدثت قبل أسابيع قليلة، عندما نشرت صورة في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لضبع قيل انه قُتل قرب قرية بيت دجن شرق نابلس.
في مواجهة هذه التهديدات تحاول مجموعات تطوعية وخبراء في جمعيات تعنى بقضايا البيئة، تغيير النظرة الشعبية غير الودودة تجاه هذا الحيوان.
في حديثه عن الوضع الراهن لحالة الضباع في فلسطين، يقول محمد نجاجرة نائب المدير العام في متحف فلسطين للتنوع الحيوي لـ “سوسنة”، “معظم الحالات التي نبلغ عنها هي حالات دهس، وغالبًا ما تأتي من أشخاص يشعرون بالخوف من الضباع”.
يعتقد نجاجرة أن أكثر المناطق تواجدًا للضباع، في جنوب الخليل، خاصة الظاهرية ويطا.
ويذكر نجاجرة، “سجّل حالتين من حوادث الدهس”، موضحًا أن إحدى هذه الحالات تم إعادة تأهيلها واطلاقها في الطبيعة.
في قصة اخرى، سرق فرغل (صغير الضبع) من والدته، وكان معروضًا للبيع مقابل 9 آلاف شيكل (الدولار يساوي 3.7 شيكل تقريبًا)، لكن افضى تدخل الشرطة البيئية وسلطة جودة البيئة الى اعادته الى الطبيعة مرة اخرى.
ويضيف “لقد وصلنا ضبعان منهكان، وكانت إحدى الحالات على حافة الموت، حيث عانت من كسر في العمود الفقري، مما حال دون قدرتها على الحركة أو الأكل، وللأسف نفقت بعد تلقي العلاج.”
من بين أنواع الضباع الثلاثة في قارتي آسيا وإفريقيا، يعيش في طبيعة فلسطين نوع واحد من الضباع، والمعروف باسم الضبع المخطط، واسمه العلمي Hyaena hyaena، وهو من الثدييات البرية القديمة في الوطن العربي، و يعتقد انه يعود في أصوله إلى قارة إفريقيا، وموجود في فلسطين لأكثر من 150 ألف سنة وفقًا لسجل الأحافير والعِظام القديمة.
يحفل الخزان الشعبي الفلسطيني بالكثير من الحكايات حول اثر غير واقعي للضبع على عقل الانسان، مثل قدرته على سلب ذاكرة الانسان، ويسيطر على فريسته البشرية.
ونُسجت حول الضباع الكثير من الأساطير والخرافات الشعبية، ونسبت إليها قصصًا لا أساس لها من الصحة، فصورت الضبع على أنه وحش شديد الافتراس والخُبث والمكر.
ينكر علماء الطبيعة والمختصون بالحياة البرية ذلك بشكل قاطع.
يقول داوود الهالي، الخبير في الشأن البيئي لـ “سوسنة”، “صوَّرت القصص الشعبية الضباعَ على أنها وحوشًا مهاجمة تتربص بالبشر تارةً، و”تضبعها” تارة أخرى، وهي قصص نجدها حتى عند أدباء العرب في العصور الوسطى.
ففي كتاب حياة الحيوان الكبرى لصاحبه كمال الدين الدميري في العهد المملوكي، يروي عددًا من القصص التي تدعي أن الضبع قادر على جعل فريسته المفترضة من البشر تستجيب له، وتتبعه لهلاكها بحجة أنه “يضبع” الناس من خلال نثر بوله على النيام منهم، وهي بالمناسبة ما زالت تتكرر في تراثنا الشعبي حتى يومنا هذا”.
اشتقت الذاكرة الشعبية الفلسطينية فعل يضبع من كلمة ضبع، وغالبًا ما تفسر ما هو راسخ في الخيال عن قدرة الضبع التأثيرية على العقل البشري.
يقول الهالي، “هذه الأساطير وغيرها، أدت وما زالت تؤدي إلى تناقص وتراجع ملحوظ على أعداد الضباع، فقد دفعت الناس لصيدها، وحتى التفاخر بقنصها وكأنها بطولات عائلية، حيث وَجَدت بعض الأكاديميين يفتخر بصيد أجداده لها، ومع تزايد ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي بتنا نشاهد عشرات القصص المصورة والفيديوهات التي تشيد بتعذيب الضباع وقتلها بكل جهل وقسوة” مشيرًا إلى أن أعداد الضباع في فلسطين يقل عن مئتي فرد، ومعظم انتشاره في المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية، كما في النقب وبرية القدس.
الضباع مهمة في التوازن البيئي والتنوع الحيوي في فلسطين؛ فهي حيوانات قمّامة تتخلص من الجيف وبقايا الحيوانات النافقة، التي لو بقيت في الطبيعة بتحللها البطيء وانبعاث الروائح الكريهة منها، لتسببت بانتشار الأوبئة والمشاكل الصحية، وهنا يأتي دور الضباع في التغذية على الجيف وهرس عظامها بفكها القوي، ومن ثم تسحب ما تبقى من الجيف لأوكارها في الكهوف البعيدة، وهي مساهمة لا تُقدر بثمن من هذه الضباع، وفق الهالي.
ويضيف “إن استمرت وتيرة ملاحقة الضباع على ما هي عليه اليوم من تبرير لقتلها والتفاخر بذلك، فإن هذا من شأنه أن يهدد بقاءها وبالتالي قد يؤدي إلى الإخلال بالتوازن البيئي من خلال تقليص أعداد الضباع التي تساعدنا في تنظيف محيطنا”.
وقال “رغم ما يُبذل من جهود حثيثة ومهمة من قبل المؤسسات الحكومية وبعض مؤسسات المجتمع المدني في سبيل حماية الحياة البرية ومن بينها حماية الضباع، إلا أن هناك دورًا مهمًا يتوقف على المواطنين، يبدأ من إدراكهم أهمية هذه الحيوانات القمّامة في البيئة، وأن لخلقها أهمية تقتضي منا جميعًا حمايتها وتركها متحررين من أساطير وخرافات تطال الضبع والغراب والبومة والأفعى وغيرها”.
“يجب التوقف عن نشر حالات تعذيب وقتل الضباع عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونسأل أنفسنا: لماذا خلق الله هذه الأنواع في الطبيعة؟”.
كان مازن قمصية في مجال البيئة والتنوع الحيوي ومدير متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي واحد من الخبراء الذين عملوا خلال السنوات الماضية على مساعدة الضباع، وفي حالة ليندا كان واحدًا من الذين ادركوا أهمية علاجها والعناية بها قبل اطلاقها للطبيعة.
يقول قمصية لـ “سوسنة”، “لا يوجد معلومات كافية ودقيقة حول أعداد حالات القتل والضرب التي يتعرض لها الضباع” مؤكدًا على أهمية اجراء الدراسات المعمقة والبحوث العلمية؛ لمعرفة واقع الضباع وما يعانيه بدقة.
ويشير قمصية، “حماية الضباع لا يمكن أن يتم بمعزل عن حماية بيئتها، فما فائدة حمايته، ولا يوجد ما يأكله”.
تواجه معظم الحيوانات البرية خطر الانقراض، فعلى سبيل المثال، توجد في فلسطين أكثر من 100 نوع من الثدييات، يواجه أكثر من ثلثها هذا الخطر، يقول قمصية.
ويذكر قمصية “القوانين المعمول بها قديمة وتحتاج إلى تحديث، بالإضافة إلى ضعف تطبيقها”.
ورد في المادة رقم 41 في قانون البيئة لعام 1999 ، “يحظر صيد أو قتل أو إمساك الطيور والحيوانات البرية والبحرية والأسماك المحددة باللائحة التنفيذية لهذا القانون، ويحظر حيازة هذه الطيور والحيوانات أو نقلها أو التجوال بها أو بيعها أو عرضها للبيع حية أو ميتة، كما يحظر إتلاف أوكارها او إعدام بيضها”.
بالنسبة لقمصية فان، “تطبيق القانون ليس كافيًا، نحن نحتاج إلى المزيد من الجهود العلمية والبحثية لدراسة الكائنات وعلاقتها بالشبكة البيئية، وضرورة التعاون لحماية التنوع البيولوجي في فلسطين وضمان مستقبل آمن للضباع والكائنات الأخرى”.
اعتمادًا على رؤية قمصية فان ضمان بقاء الضباع يبدأ “بتوعية الأطفال منذ الصغر، بأن الضباع لست كائنات مفترسة، بل وجودها يحافظ على التوازن البيئي والتنوع الحيوي في فلسطين”.
عندما تم احتضان ليندا، كانت حياتها على مفترق طرق، اما الحياة الطبيعية في البيئة او الموت، لكنها بعد قضاء وقت في برنامج الرعاية، اخذت تطور اسلوبها الفطري في الحياة، مثل حاسة الشم والقدرة على البحث عن ملاذ للاحتماء.
في شباط / فبراير عام 2020، وعندما وصل عمرها لعام تقريبًا، أطلقت في موئل مناسب لها في الطبيعة، وعندما عاد موظفو المتحف بعد فترة اسبوع لرفدها بالمزيد من الطعام، اشارت اثار مخالبها انها تتطور بشكل مثالي في حياتها الجديدة.