
سوسنة
خالد ابو علي
جبال عالية يغطي السحاب قممها، وتكسوها اشجار الصنوبر والسريس والبلوط والخروب والزيتون، فلا ترى العين سوى الأغصان والأفنان والأوراق.
ذهلت من جمال الطبيعة الجميلة؛ واد نضير خصيب تحيط به سفوح جبلية صخرية يتدفق منها ماء غزير عذب صاف، يتلوّى في سواقي متعرّجة، متفرّقة تارة، ومتّحدة أخرى تلتقي في قعر الوادي بين صخور صقلتها المياه الجارية على مدار آلاف السنين.
يقع وادي قانا، وهو محمية الطبيعية الفلسطينية بين محافظتي قلقيلية وسلفيت في شمال الضفة الغربية.
خضرة وجمال، أشجار باسقة تمتد نحو السماء، وزهور تتمايل مع نسائم الطقس المتقلب، وفراشات هائمات في فلك الربيع الذي كان لفورته هذا العام جمالا يضاف إلى جمال المكان.
شاهدت أسرابا من الطيور الجميلة تبحث عن ظل يحميها من الحرارة، فتحط على غصن شجرة تغطيه أوراقها، وتقتات من ثمر تلك الشجرة، فتبني أعشاشها، وتتّخذ من الأغصان مأوىً لها.
أعشاب خضراء تغطي أرض الوادي كأنها بساط أخضر بديع، ومياه الينابيع تجري خلاله تلمع مثل الفضة تحت اشعة الشمس، وزهور البرية الجميلة تزيّنها وتضفي عليها مسحة من البهاء والسّحر، والنّسيم العليل يحرّكها في رفق متتّبعا ألحان تغريد الطيور وتسبيحها.
و”قانا” التي هي في الأصل كلمة آرامية تعني بحسب كتاب ” بلادنا فلسطين” لمؤلفه مصطفى الدباغ، ” المستور” أو “المخفي”، تتفجر من بين صخور واديها ينابيع مياه عدة منها: عين الحية، وعين المعاصر، وعين الجوزة، وعين الفوار، وعين البنات وعين البصة، وعين التنور، وعين ابو شحادة اضافة الى عيون تقع خارج الوادي.
يحيط بالمحمية الطبيعية 6 قرى فلسطينية وهي من الشرق: بلدة ديراستيا ويحيط بالوادي من الجهة الشمالية قرى: جينصافوط وكفر لاقف وعزون ومن الجهة الغربية تقع قرى سنيريا، كفر ثلث، ومن الجهة الجنوبية قرى: قراوة بني حسان، ومن جهة أخرى، اماتين وديراستيا، ومعظم أراضيه يمتلكها مزارعون من بلدة ديراستيا المجاورة، على مساحة تزيد عن العشرة آلاف دونم.
لا شيء يضاهي متعة التنزه في الوادي واكتشاف عيون مائه والتمتع بمشاهدة زهور شقائق النعمان وأوراق “عصا الراعي “، والنباتات والأعشاب الطبية المتعددة وشراء البرتقال بعد أن تقطفه بنفسك من بساتين الوادي بمساعدة أصحابها، ورؤية العديد من العربات التي تجرها الخيول وهي تنقل ثمار البيارات.
هذه الأرض تحتضن في باطنها كنزا لا يعرف عنه الكثير من الناس في فلسطين، فهي إحدى خزانات المياه الجوفية في الضفة الغربية، بالإضافة لكونها وادي عريض يغذيه وادي عينابوس وجماعين.
كما أنها تعتبر من أكثر الأراضي خصوبة في فلسطين، ولا ننسى الإشارة إلى ما تحتويه المنطقة من مواقع أثرية تسلب الألباب والعقول وبفضلها تزدهر عشرات البساتين من البرتقال والليمون وغيرها من الأشجار الحمضية.
يبلغ عرض مجرى وادي قانا في بعض المناطق 11 مترا، وبعمق 3 أمتار مما يعطيه صفة النهر لو كان جريانه دائما.
كما توجد في جبال وادي قانا كهوفا منحوتة بالصخر، بالإضافة لمعاصر العنب الأثرية التي تتواجد داخل البساتين، وجميعها، ميزات ترشح المنطقة لتكون من المناطق السياحية الجذابة على مستوى الوطن.
سرت في الوادي وأنا أتأمل الطبيعة الخلابة؛ مشاهد كفيلة بأن تشعرك بأنك بحاجة الى الصمت لا النقاش. التأمل لا الكلام . كل شيء جميل وأخاذ، وكأنك في عالم آخر، أردت أن اصبح جزءاً من هذا الجمال لأشارك الطبيعة صمتها وأتأمل هدوءها الصاخب في دورة الحياة والموت.
لكن الجمال في فلسطين لا يكتمل دوما ، حيث تطل على الوادي الرائع 6 مستوطنات تشوه اللوحة، هي عمانوئيل ذات الأغلبية المتدينة، لتمنع الهواء النقي عن الوادي من الجهة الشرقية، وتنساب مياهها العادمة في الوادي لتلوث نبعاً طاهراً كان ومازال قبلة للمتنزهين في الربيع، وتشكل باقي المستوطنات الخمس ( ياكير و نوفيم و كرني شمرون و جنوت شمرون و معالي شمرون) جدار اسمنتي تطوق أرض الوادي كقيد حول المعصم.
الآن وبعد مرور ما يزيد عن الثلاثين عاما على اتفاق “أوسلو”، تبقى عملية التهويد لأراضي الوادي مستمرة بوتيرة عالية دون إبداء الاهتمام اللازم من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني.
عند الغروب ، وفي ختام الجولة ، كانت محمية وادي قانا أشد سحرا فالشمس تلقي بأشعتها المحمرّة اللّمّاعة على الخضرة وتزيدها رونقا وبهاء وتختبئ في خجل مودّعة الطّبيعة جاعلة من الأشجار حجابا أو وشاحا مزركشا يضفي على جمالها جمالا وعلى بهائها بهاء.
*خالد أبو علي، هو باحث وناشط بيئي فلسطيني يقيم بين مدينتي رام الله وجنين، ويعتبر أيضا خبيرا في التخطيط الاستراتيجي والطاقة الخضراء وله إسهامات متعددة في تنظيم النشاطات الخضراء.