
سوسنة
خالــد أبـو علـي
في صباحٍ ربيعي نديّ غادرت الحافلة مدينة رام الله والبيرة مع انبلاج الضوء، تمام السادسة صباحًا من يوم الجمعة، 25 نيسان لعام 2025.
حين كانت الأرض تتعطّر بندى الفجر، انطلقت رحلة لا تشبه سواها، 60 مشاء من فريق “امشي وتعرف على بلدك” ، خطوا خطواتهم الأولى على دربٍ بيئيّ يهمس بالعطر، ويفيض بالحياة، التقوا على موعدٍ مع الجمال، حملتهم خطواتهم نحو مسارٍ بيئيّ يشبه الحلم ومع دربٍ بيئيّ يهمس بالتاريخ وتفيض منه الحياة.
لم تكن الوجهة مجرد نقطة على الخريطة، بل كانت جبال كفر عين؛ قرية تختبئ على بعد 25 كيلومترًا شمال غربي رام الله، وتنهض على ارتفاع يقارب 400 متر عن سطح البحر، كأنها تطل من نافذةٍ عالية على حكايات الزمن.
هناك، في حضن الطبيعة، كفر عين، التي سُمّيت تيمنًا بينابيعها المتدفقة من روح الأرض؛ عين الجديدة، عين الوهره، عين البقوم، عين البلد، وعين قاروص كأنها قصائد من ماء، أحاطت بها بلدات بروقين ودير غسانة شمالًا وغربًا، قراوة بني زيد ودير السودان شرقًا، وبيت ريما والنبي صالح جنوبًا، وكأنها درة في عقدٍ من القرى.
وفي استراحة هادئة في وسط هذا الجمال المترامي، جلس الفريق قرب عيون الماء التي تسكن الجبال والوديان كأنها نُقاط من ضوء، هناك حيث دارت الحكايات، ونسج الأجداد أساطيرهم حول الماء والخلود والانتماء.
لكل عين حكاية، ولكل قطرة ذاكرة، تهمس بأن الفلسطيني، حيثما مشى، يترك أثرًا في الأرض وجذورا في الحنين.
تقدّم الفريق يخطو بحذر ورفق بين الصخور التي غطّتها الأعشاب، بين المصاطب الصخرية التي صاغها الزمن، وكأنهم يعبرون على تاريخٍ تشكّل منذ ملايين السنين، ساعد بعضهم بعضاً في تخطّي المصاطب الصخرية الطبيعية، في لحظات من التعاون تشبه خيوط الودّ التي تنسجها الطبيعة بين قلوب البشر، في مشهد يحتاج إلى روح الجماعة، وإلى احترام صمت الطبيعة، وفي كل خطوة، كانت الأشجار البرّية تصاحب الرحلة، تناثرت كحراس الزمن ومنها الصنوبر، السرو، الخروب، البلوط، الرتم، الزعرور، السريس، القطلب، الرتم الأصفر، القندول، الياسمين البري، رافقتهم كأنها تسير معهم، ومعها ظهرت أشجار اللوز والزيتون، تلك التي غرسها الفلاحون بأيديهم ذات يوم، وورثتها الأرض ككنوز مقدّسة، وسقوها بأحلامهم قبل الماء، كانت تحرس الدرب بكرامة الأرض والطبيعة هنا متنوّعة كأنها معرض مفتوح للعطر والحياة.
وفي منتصف الطريق، توقفت الخطى، كان الجمال يدعو للتأمّل، والتقطت العدسات لحظاتٍ خالدة بين الزهور، صورًا لا تُؤرشف فقط في الهواتف، بل تبقى في الذاكرة شاهدًا على عناقٍ بين الإنسان والطبيعة هنا، كل شجرة تحمل ذاكرة، وكل جذعٍ هو فصل من كتاب القرية.
ما إن بدأ الفريق مسيره، حتى بدأت الطبيعة تبوح بأسرارها. نباتات برية وأعشاب طبية فاحت روائحها العذبة في المدى، كانت الزهور البرية تتراقص تحت ضوء الشمس حيث تتناثر الأعشاب البرية، ومن بينها الزعتر الفارسي، الميرمية، الشومر، الكتيلة تتمايل في نسمات الجبل كأنها أناشيد، وكأن الأرض تزهو بزينةٍ فطريّة لا يقدر على حياكتها سوى الخالق.
كان المسير بين الصخور يحتاج إلى تروٍ وعناية، فالأرض هنا شديدة الجمال وشديدة الحساسية. الأعشاب البرية غطّت الهضاب، والمصاطب الصخرية المتشكّلة منذ ملايين السنين فرضت على الفريق أن يتعاون، أن يتشارك، أن يتذكّر أن الطبيعة لا تُعبر وحدك.
على وقع خفقة جناح، وتغريد طيورٍ تعرف الطريق جيدًا بين الأغصان، واصل الفريق سيره بين أحضان الطبيعة الفلسطينية، تلك التي لا تشبه سوى ذاتها، عالمٌ من السحر والسكينة، حين تطأه الأقدام تتعطل لغة الكلام، وتنوب عنها الروح في الحكاية.
كانت الأزهار البرية تفتّح ذاك الصباح قلبها لنا، بعبقها الآسر الذي لا يُقاوم، كانت الروائح الزكية تنساب في الهواء مثل موسيقى صامتة، تخترق الجسد لتسكّن فيه تعب الأيام. زيوتها الطيّارة كأنها مرهمٌ للروح، تشفي من الحزن، وتبعث الثقة، وتحرّر النفس من أعباء القلق والتوتر.
وفي هذا الفردوس الطبيعي، تنوّع بيئي يأسر الحواس، نباتات بريّة وأعشاب طبية تعبق برائحتها المدى، كل زهرة كانت قصيدة، وكل رائحة كانت همساً من الطبيعة لمن يُحسن الإصغاء، تفتحت الأرض عن روائعها: الزعتر الفارسي، الميرمية الجبلية، الأوركيدا، السحلَب الهرمي، الطيون، القندول، الثوم البري،الخرفيش، الختمية، الورد الجوري البري، والياسمين البري،اللبيدة”القريضة”، دم الغزال ،الركف، اللوف، الكبار،اليمرور، الدحنون، الكتيلة، الطيون ، العليق، المدادة ، الغاشية ،الأقحوان الأبيض، الجزر البري ،الختمية “الخطمية”، الكتان، سيف القمح، ألوان تتراقص على بساط العشب، كأنها لوحة رسمتها يد السماء.
لكن المدهش بحق، كان وجود نبتة الزعتر الفارسي الطبي بكثافة مذهلة، تغلّف الجبال وتمنحها حضورًا ملكيًّا. تناثر الزعتر والميرمية فوق التلال، تُطلق رائحتها النفاذة فتتسلل إلى صدورنا مع النسيم العليل، وكأن الجبال نفسها تتنفس معنا. كانت حدائق ذات بهجة، تفتح أبوابها للناظرين، ولا تشبع العين من تأملها، ولا تتعب من التهام سحرها
وما إن اقتربت الرحلة من نهايتها، حتى امتدّ المسار نحو قرية قراوة بني زيد، الواقعة على بعد 26 كيلومترًا شمال رام الله، بارتفاع 340 مترًا عن سطح البحر، محاطة بقرى فرخة، بروقين، كفر عين، ومزارع النوباني.
قراوة، مثل أختها كفر عين، موطن للينابيع: عين البلد، دار طه، عين عواد، عين ممدوح الطه، عين العوينة، عين القيقب، عين الخانق، لكن رغم وفرة الأسماء، الماء هنا شحيح، والظمأ مزمن.
تعتمد القرية على مياه آبار الجمع، وبعض الينابيع موسمية. وفي الوقت الذي تفيض فيه الأرض بذكريات الماء، يعاني السكان من انقطاعه المستمر. الحياة هنا تشبه البداوة في قسوتها، إذ يُجبر الأهالي على حمل الماء في جالونات صغيرة، أو شرائه من صهاريج المياه الغالية، كأنهم يعبرون صحراء بأحلام زرقاء.
ومع ذلك، تنبض القرية بالحياة من قلب معالمها الأثرية: مغارة العين، مقام أبو عمرو، مقام أبو خير، جبل دير الرهبان، وخصوصًا مركز الديوان للثقافة والتراث، الذي بات منارةً تراثية وثقافية فريدة، يروي الحكايات حين يعجز اللسان.
لم تكن الرحلة مجرّد مسار بيئي، بل كانت لقاءٌ صادق مع الأرض وعبورًا في ذاكرة الأرض، عادت الخطى عند الظهيرة محمّلة بعطر الأعشاب، وبصورٍ تشهد أن الجمال ما زال هنا، وأن الطبيعة ما زالت تنادي من يسمعها.
*خالد أبو علي، هو باحث وناشط بيئي فلسطيني يقيم بين مدينتي رام الله وجنين، ويعتبر أيضا خبيرا في التخطيط الاستراتيجي والطاقة الخضراء وله إسهامات متعددة في تنظيم النشاطات الخضراء.