سوسنة، عبد الرحمن القاسم
من هذا النبع المتدفق تزود الانسان بالماء عندما بدأت رحلته في الاستيطان والتعمير وبناء الأسوار والتحصين، وانتقل من نمط الحياة البدوية الى المستقرة في أول مستوطنة بشرية.
يقع نبع عين السلطان في أريحا أكثر مدن الأرض انخفاضا عن سطح الارض، تقريبا بمحاذاة المركز الحضري الأولى في الحضارة البشرية، حيث تزود البناة الاوائل بالماء حين بدأت مسيرة الحضارة البشرية في التعمير والبناء.
كانت وفرة مياه نبع عين السلطان وينابيع اخرى قريبة سبب الاستقرار البشري الحضري بأريحا في العصر الحجري الحديث، وتطورت حول تلك الينابيع بنايات ومنشآت لتؤسس نشوء المدينة الأولى في التاريخ.
مثلما أحدثت الكثير من المسطحات المائية تحولا في حياة البشر نحو الاستقرار وتطور الصناعة والتجارة، كان هذا النبع المحور الأساسي في تاريخ استقرار الإنسان في تاريخ فلسطين وتطور العديد من نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكان على مدى التاريخ جزءا من صورة الحضارات التي قامت هنا.
إن قصة هذا المسطح المائي الذي يتدفق في أقدم مدن العالم، يروى تاريخ الاستيطان البشري الحضري على الكرة الأرضية.
لقد كان نبع عين السلطان شريان حياة أريحا على مدار التاريخ. كانت المدينتان القديمة والحديثة ترتبطان بالنبع في كل مراحل التاريخ.
يقول مدير عام وزارة السياحة والآثار في أريحا اياد حمدان “تلك العيون هي أساس الحضارات، وحولها جرت عملية تدجين الحيوانات، وإنشاء المدن، وتلك الكهوف المنتشرة على التلال قرب عين الديوك، دليل على ذلك التاريخ منذ 16 ألف عام”.
ويشير حمدان إلى ارتباط نشأة الحضارات والتجمعات البشرية في محيط أريحا بعيون الماء مثل: عين الديوك، والنويعمة، وعين السلطان، والقلط، وجميعها عيون ماء محيطة بمركز المدينتين القديمة والحديثة.
واضاف “هذه الينابيع التي تضخ مياهها العذبة في قاع العالم هي انعكاس مباشر لمقولة” أينما وجد الماء وجدت الحياة”.
ولا بد ان الذين عاشوا عبر التاريخ هنا كانوا يقيمون في المنطقة لأن عين السلطان كانت تزودهم باحتياجاتهم من المياه العذبة، فمثلما تقدم أريحا صورة عن أكثر المناطق البشرية اثارة في تدشين بناء الأسوار والمنازل، تقدم ايضا صورة اخرى مثيرة عن مسطحاتها المائية مثل البحر الميت القريب الأكثر ملوحة وعيون الماء العذبة ونهر الأردن من ناحية الشرق.
وفيما تقدم الحكاية المروية عن تاريخ النبع والمدعومة احيانا بنتائج الاكتشافات الأثرية، قصة مثيرة عن مسطح مائي ساهم في إنتاج حضارة البناء والتعمير، يقدم الارشيف المتلفز الحديث سيرة حياة سكان أريحا في العصر الحديث وارتباطهم بهذا النبع.
يحتفظ الارشيف الخاص بـ”باثي” وهي شركة انتاج تلفزيونية قديمة ببعض المقاطع المذهلة للحياة حول هذا النبع تعود الى العام 1964، حين كانت المياه تتدفق وحولها يجتمع سكان أريحا يتزودون بالماء و يسقون مواشيهم ويبيعون منتجاتهم وتنمو حياتهم يوما بعد يوم.
لقد كان نبع عين السلطان طوال التاريخ ملاذا رطبا للبشر هنا.
في العام 2023 حدثت قفزة كبيرة في سياق وضع هذا المكان على الخارطة العالمية حين قررت لجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “يونسكو” خلال الدورة الخامسة والأربعين لليونسكو، المنعقدة في العاصمة السعودية الرياض، بتسجيل موقع أريحا القديمة/ تل السلطان على قائمة التراث العالمي.
يقول فتحي براهمة نائب رئيس بلدية أريحا في مقابلة مع “سوسنة”، أن الينابيع في فلسطين عموما وفي أريحا تؤرخ لحضارة زراعية وحضارية واستقرار بشري.
وطالما اعتبر نبع عين السلطان جزء من تل السلطان والتي ظهر فيها أول تجمع حضري بالألف العاشرة قبل ميلاد المسيح عليه السلام.
وأضاف، أن النبع الشريان الرئيس الذي يغذي مدينة أريحا بالمياه العذبة وايضا لاستخدامات الزراعة.
وقال براهمة، أن البلدية نفذت عبر مجالسها المختلفة حيث مشاريع مختلفة الهدف منها توزيع المياه سواء للشرب او الزراعة عبر محطات وخزانات وانابيب الضخ وإلغاء نظام القنوات المكشوفة، وذلك لضمان وتقليل نسبة الفاقد من المياه والاستفادة القصوى من المياه.
لم تكن اريحا فقط رائدة في مجال البناء الأول في التاريخ البشري، انما ايضا كانت قادرة على ادارة موارد المياه عبر التاريخ، وحتى سنوات مضت كانت القنوات القديمة مازلت تعمل كما هي في الماضي.
مثلما لكل مجرى نبع في أريحا هندسة تشكيل معينة، كان له ايضا استخدامات مختلفة.
قال حمدان “عين الديوك كانت مصدرا أساسيا للأراضي المزروعة بقصب السكر، التي كانت في أوقات سابقة أكبر مصدر للسكر في الشرق الأوسط، الذي وصفه المؤرخ والجغرافي الشهير ياقوت الحموي بـ”سكر أريحا الأطيب وبأنه سلعة الملوك”.
لكن واحدة من مميزات عين السلطان، وبسبب قربه من المدينة الاولى في التاريخ، انه ملتقى للكثيرين من سكان اريحا او الوافدين الها فقد جذب السياح ووفر لهم مساحة مريحة للتجول في محيطه.
قال براهمة، أن البلدية عملت تأهيل المكان وخاصة منطقة والقنوات الرئيسيه الناقلة له وأصبحت محجا سياحيا لأهل المدينة والاجانب وكذلك تنظيم امسيات ثقافية وشعرية حول النبع في ليالي أريحا القمرية
في عام 2006، نجحت مؤسسة أنيرا في إنجاز مشروع مياه كبير في عين السلطان استغرق العمل به ست سنوات وتم استبدال نظام القنوات المفتوحة بنظام متطور من الأنابيب ومضخات المياه الفعالة.
فبدلاً من الحصول على إمدادات محدودة من المياه بشكل عشوائي لبضع ساعات فقط في اليوم، أصبح المزارعون في المنطقة الآن يحصلون على إمدادات غير محدودة طوال اليوم، حيث تقوم العدادات بحساب كمية المياه التي يتم استهلاكها.
ولم يعمل النظام العادل على جعل أحواض التخزين غير ضرورية فحسب، بل وضع حدًا للتلوث والتبخر والتسرب.
في الصيف الحار في هذه المنطقة التي تسودها خلال أشهر الصيف الطويلة الحارة أجواء قائظة، يأتي الصبية والشبان لتبريد اجسادهم في ساعات القيظ، حيث تصل درجات الحرارة غالبا في ذروات الحر الى منتصف الأربعينات، وتجاوزت في حزيران الماضي 2024 هذا الرقم.
لا أحد في أريحا يعطي تفسيرا واحدا لماذا حمل هذا النبع اسم عين السلطان، رغم انه حمل عبر التاريخ اسماء متعددة ذات دلالات مختلفة.
لقد حمل نبع عين السلطان أسماء كثيرة بلغات متعددة تحدث بها سكان فلسطين، وفي التاريخ المشهود تعددت الروايات التي تفسر لماذا يحمل هذا الاسم، اشهرها ان احد الملوك فقد عينه هنا، ولذلك سمي عين السلطان.